الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأحد 14-ديسمبر -1986 م
إذا نظر الإنسان العاقل إلى حقيقة مفهوم الحسد والحقد وحقيقة مفهوم الإيمان الصحيح يجد بل ويتأكد بأن كلا منهما يناقض الآخر ، منطوقا ومنطقيا ، ومنظورا ومفهوما ، ويتبين هذا الحق الحقيق الفرق الدقيق بداهة وصراحة ،بنظرة خاطفة إلى المعنى السليم لكلا اللفظين أو الاصطلاحين ، فإن الحسد معناه المعلوم بالضرورة والمعروف بأجماع العلماء : “تمنى زاول نعمة الغير” وأما معنى الإيمان الحقيقي عقلا وشرعا ، وعادة وعرفا ، لدى أولي الألباب قديما وحديثا ، فإنما هو : اليقين بأن للكون خالقا مدبرا ، ويترتب على هذا اليقين ، التفكير في خلقه وتدبيره وقدرته وربوبيته ونظامه وحكمته في هذا الكون ، يليه التفكير في علاقته أي الإنسان بذلك الرب الخالق ومسؤوليته أمام ورغبته في التقرب إليه ونيل رضاه ومحبته لأن من طبيعة البشر حب التطلع إلى مدارج المعرفة والكمال ، وحب استرضاء من هل سلطة عليه ، وقدرة على تقرير مصيره وعلى نفعه وضره .
ومن هذا المنطلق ينبغي للإنسان العاقل أن يتفهم جيدا أن كل مخلوق له خالق ورازق وقابض على زمام وجوده ومصيره وهذا التفهم يحدث في قلبه السليم شعورا باستقلال الذات واستقلال المصير في حياته بحيث أن أجله ورزقه وخيره وشره في يد السلطة العليا المطلقة العامة وهي رب العالمين وخالق الكون ومدبر شؤون الكائنات ، وبالتالي ، يتيقن تلقائيا أن الخالق المطلق علام الغيوب ورزاق العالمين هو الذي يقرر ويحدد نصيب كل إنسان في حياته ، من أجله ورزقه وحظه من الصحة والنعمة المادية والطاقة العقلية والعلمية وغيرها .
و عندما يستقر هذا الإيمان الصحيح في قلب إنسان صحيح التفكير يتأكد بثابت فكره وثابت إيمانه بأن الحقد على نعمة الغير والتمنى لزوالها أو على الأقل عدم الرضى بحصوله عليها دونه يعتبر تدخلا في شؤون خالقه المطلق ، بل هو بمثابة عدم الرضى بتدبير رب العالمين واعتراض على تقديره وتدبيره وتنظيمه وأن هذا الاعتراض الضمني الذي ينتج عن الحسد في القلب تجاه نعمة الغير ، احتجاج على قضاء الله رب العزة والجلال وتدخل في ملكوته وسلطته العليا .
وأن مقتضى العقل السليم يؤكد بأن الاعتراض على السلطة العليا الحاكمة وغعلان الاحتجاج على أحكامها وتشار يعها يورث غضب صاحبها وربما ينزل على ذلك الخارج على إرادته ومشيئته والرافض لقضائه وقدره وحكمه وقراره عقابا صارما ، وتأديبا رادعا ، ونرى هذه النتائج الوخيمة المترتبة على الحسد من عدة آيات كونية وقرآنية وإرشادات نبوية حكيمة ، ومن الآيات الكونية : أن قلب الحاسد يحترق دائما ولا يشعر بالهدوء والراحة والطمأنينة فكلما يتذكر نعمة الغير يحسد عليها – سواء المال أو الجمال أو الجاه أو المنصب أو الصحة أو المكانة وما إلى ذلك – يزول على قلبه الاستقرار ويطير عن عيونه النوم الهادئ بدون فائدة تعود عليه ولا بنقمة تنزل على عدوه ، ومهما حاول المخلوق وتطاول لا يقدر عل التحكم في قرار الخالق الحكيم كما لا يستطيع إلغاء القرار الذي صدر منه فعلا في حق الغير ، وإلى هذه الحقيقة الفطرية الكونية أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فقال : “الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب” فشبه الحسد بالنار وشبه صاحبه بالحطب فالعلاقة بينهما معروفة لدى كل من له أدنى إلمام بالذوق السليم أو مساس الفهم الصحيح لحقائق الأمور والأشياء ومجريات الأحداث في الحياة والدنيا فلا داعي لمزيد من الشرح والإيضاح بحيث لا يقدم عاقل على ارتكاب هذه الغباوة أبدا في حياته ، وكيف يستعد إنسان غير مخبول لإحراق قلبه ونفسه بنار الحسد بدون طائل ولا حبة خردل من النفع ، بل يجلب به وابلا من المخاطر الفتاكة المهلكة .
والمضرة الكونية الطبيعية الأخرى ، أن الحاسد يكون مرذولا ومغضوبا ومطرودا لدى الجميع فكلما يراه الناس يقرأ المعوذتين استنقاذا من شروره واستعاذا من آثار حسده ، وإلى هذه العاقبة الوخيمة نبه انبي صلى الله عليه وسلم إذ قال “الحسود لا يسود” لأنه مرذول في المجتمع ومطرود .
ومن الآيات الدالة على سفاهة الحسد وسخافته قوله تعالى : أن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيئ قدرا ثم قال : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وهو مولانا” ، وقال كذلك هاديا ومرشدا ، ومحذرا عن الحقد والحسد تحذيرا بليغا : “وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف إلا هو ،وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ” فلماذا الحسد ؟ وماذا يفيد ؟ وماذا يستفيد منه الحاسد المردود ؟ .
وإذا نظرنا بعين التحقيق بالفكر العميق إلى حقيقة الإيمان ، نزداد يقينا على يقين حينا بعد حين بأن الإيمان بالله وقضائه وحكمه إنما هو المصدر الوحيد لاستقرار الذهن واطمئنان القلب وهدوء البال ليلا ونهارا سرا وجهارا وقد أرشد خالق البشر إلى هذا الأمر اليقين : “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” ثم قال : “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” وقال : “وإن أولياؤه إلا المتقون” وإن منبع التقوى هو الإيمان بنص إرشاد القرآن : “هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون” ، وهكذا نرى التضاد الحقيقي والتناقض المبدئي والتنافر السيئ والمعنوي بين الحسد والإيمان ، فلا يجتمعان في قلب إنسان في أي حال وأوان .