الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 26-أغسطس-1986 م
هاتان قاعدتان فطريتان وربانيتان خالدتان فلا يختلف مقتضاهما ولا يخفى مغزاهما في معترك الحياة الإنسانية كلها وفي جميع مرافقها وبخالتها ، وقبل أن نتطرق إلى صميم شرح هذه القضية بنوع من الإيضاح والتفصيل ينبغي لنا أن نضع نصب الأعين الإرشادات النبوية الهادية إلى لب الموضوع كمدخل إليه ونبراس عليه ، وقد روى الإمام الترمذي رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : “احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا” (الترمذي – حديث حسن صحيح) .
كل عسر يعقبه يسر إن عاجلا أو آجلا
إذا أراد الإنسان المؤمن العاقل أن يتفهم الارتباط الوثيق بين العسر واليسر في النواحي المادية أو النواحي المعنوية المتعلقة بحياة الإنسان يجب عليه أولا أن يعي بثاقب فكره وناضج عقله وراسخ إيمانه مفاهيم وتفاسير سورة “الم نشرح” التي هي في قمة الإعجاز والإيجاز في بيان الارتباط العميق والوثيق بين المد والجزر في الحياة الكونية وترتب النتائج على مقدماتها الطبيعية ، ومدى أثر السعي الإنساني في مكاسبه ودخل إرادته واختياره في نجاحه في سبيل تحقيق الغايات والأهداف المنشودة من الخلق والتكليف ، مع أن الله تعالى بالغ أمره وقدر جعل لكل شيئ قدرا ورفعت الأقلام وجفت الصحف ، ولكن قانون الفطرة البشرية يتطلب من الإنسان – أيا كان – أن يعمل ويسعى وأنه مكلف ومحاسب بميزان التكليف الاختياري المستطاع كما بينه خالق البشر ومالك الكون إذ قال : “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأنه سعيه سوف يرى” وأيضا : “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” .
وأما سورة الانشراح فقد نزلت لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم ولتذكر أمته بسيرته وقدوته في حياتها دائما وأبدا ولترسيخ بعض النواميس الكونية في حياة البشر وكذلك لبيان فضل الله تعالى على أكرم رسله وأكمل انبيائه فتقول السورة : “ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا وإع مع العسر يسرا ، فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب” .
وقد بين الله سبحانه وتعالى في بداية السورة النعم الأربع الكبرى التي أنعم بها على عبده ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين كافة وقد جاهد وكافح في تبليغ رسالته وإتمام مهمته وأداء كل ما كلفه ربه بأمانة ودقة وثقة بالغة وقد لاقى في سبيل ذلك صعابا وقبات لا يعرف شدتها وخطورتها إلا الله الذي بعثه وشد إزره وثبتقدمه ونصر عبده بمحض فضله وكرمه ، وإن في تذكيره بهذه النعم تثبيت لفؤاده على أدائه واجبه كاملا وتذكير لأمته بل والإنسانية جمعاء بأن قانون الأسباب والمسببات هو مدار العمل ومعيار النجاح ، وأن هذا القانون ينطبق على الأنبياء والرسل أيضا كما ينطبق على سائر الناس ، وأن النعم الأولى من انشراح صدر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يتضايق ويتحسر بعدم إقبال الناس على دعوته وقلة المستجيبين له وشدة مقاومة أعدائه فكان يخاف أن يحصل أي تقصير من جانبه كبشر يوحى إليه في تبليغ رسالته واختيار أساليب ووسائل ذلك التبليغ لشدة حرصه على نجاح مهمته وقوة إيمانه بأحقية رسالته فشرح الله صدره وأقر عينه بنشر دينه وبث دعوته والنعمة الثانية هي ” لأنه تعالى قد خفف عنه وزره الملقى على عاتقه والمسئولية الكبرى التي كانت تثقل كواهله حيث أكثر أصحابه وأتباعه وأنار الطريق أمام الناس ليدخلوا في دينه أفواجا ، والنعمة الثالثة إنما هي : إيصال الحمل الثقيل الذي كان يحمله على عاتقه إلى غايته ونهاية مطافه وأنزل عن ظهره الأصر الذي حمله ليبلغه إلى الناس حتى جاءه الفتح المبين وارتاح قلبه واستقام ظهره بعد أن كاد ينقض بثقل حمله ووزن إصره المحمول عليه .
وأما النعمة الرابعة فهي : “ورفعنا لك ذكرك” فما أروع هذا الرفع الإلهي فيشق عنان السماء ليل نهار في كل مكان على وجه الأرض وتنطلق السنة الملايين في آناء الليل واطراف النهار بالصلاة عليه ومدحه وثناءه لا لرفع اسمه ومقامه لأنه مرفوع على الملأ في السماوات والأرض من رب العالمين بل ليحصلوا على الفضل بذكره وليرفعوا مكانتهم وليزداد ثوابهم عند الله بالصلاة والسلام على نبيه كما أمره .
ثم أعقب القرآن ذكره هذه النعم الكبرى والإنجازات العظمى بالقاعدة الفطرية التي تدور حولها النواميس الكونية فقال : “فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا” حيث يعقب كل عسر يسر وكل ضيق فرج وكل كرب فتح مبين ، وقد أصاب الشاعر حيث قال للإنسان الذي يضيق صدره حينا فآخر ويصادف العسر في طريق سعيه وهدفه !
أما تقرأ ألم نشرح فعسر بين يسرين !