الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 28-يوليو-1986 م
إن المؤمن بالله مؤمن بقدره وقضائه وقدرته ومشيئته كما أنه مؤمن بقانون الأسباب والمسببات الموصلة إلى ما قدر الله وشاء ، وقد قضت سنة الله تعالى من كونه وخلقه ، أن تجري الأمور على المسببات التي تعطي النتائج وتحقق الغايات المتصلة بها بحيث ينبغي اتخاذ الأسباب المطلوبة وهناك إذن أسباب فطرية وراء كل أثر ونتيجة يظهر في هذه الحياة على وجه الأرض وأن موجد هذه الأسباب والموفق عليها هو الخالق عز وجل فلو أن الأثر قد ظهر للإنسان بعد اتخاذه بنفسه الأسباب الموكلة إليه وسعى لأجلها وبذل الجهود واتخذ الوسائل وبقدر طاقته وعلمه وخبرته فالذي خلق تلك الأسباب وهيأ الوسائل ومنح قدرة التحرك وطاقة السعي هو خالق كل شيئ وبيده ملكوته منذ الأزل فلا يتحرك شيئ ولا يثمر ثمرة مرجوة إلا إذا شاء خالقه ومدبرة ومالكه وهو الذين أعلن بكل صراحة ووضوح : “فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيئ وإليه ترجعون ” (يس : 83) ، ثم قال : “وما تشاؤون إلا أن شاء الله إن الله كان عليما حكيما “(الدهر : 30) .
وأن تمكين الله سبحانه وتعالى الإنسان لاتخاذ الأسباب لا يأتي لا بإرادته ومشيئته فكل ما يكسبه الإنسان بواسطة الأسباب الظاهرية الطبيعية إنما هو من عند الله عز وجل حسب ما تقضي به حكمته لأن سعي المخلوقات ليس إلا مجرد أسباب موصلة إلى الأشياء المقدرة له من الله تعالى بمحض فضله وكرمه ، وإلى طريقة جعل الأسباب متصلة بمسبباتها أشار سبحانه : “إنما مكنا في الأرض وآتيناه من كل شيئ سببا ” (الكهف : 84) .
هو الذي يخلق إرادة الإنسان وأعماله
لقد صرح القرآن الكريم ان الله تعالى هو الذي خلق الإنسان وجميع طاقاته وقدراته الخفية والظاهرية والبدنية العقلية والفكرية والروحية وأن عمل الإنسان وسعيه ناتج من هذه الطاقات والقدرات المخلوقة فيه وكذلك فإن القدرة الإلهية هي التي تحفظ تلك الطاقات ، وتغذيها وتحركها وتمدها بحياة وصحة وإلى هذه الحقيقة أشارالقرآن الحكيم : “والله خلقكم وما تعلمون” (الصافات : 96) .
وقد أمر الله تعالى الإنسان لأن يسعى دائما ويتحرك إلى الغايات التي تحقق له حاجاته وتحفظ عليه حياته وذلك باتخاذ الأسباب التي يراها موصلة إلى تلك الغايات ولكن بيقين تام بأن ما يحصل عليه أو يصل إليه ، هو مما شاء الله له وقدر بحكمته ومشيئته وقال تعالى حاثا على السعي ومحذرا عن القعود والتكاسل : “وأن ليس للإنسان إلا ماسعى وأن سعيه سوف يرى” (النجم : 40) ، ثم قال :”وقال اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” (التوبة : 105) ، وقال أيضا : “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” (الزلزلة : 8) .
وما شاء الله من الإنسان أن يتواكل ويتقاعد مدعيا التوكل على الله معطل مدركاته وجوارحه وطاقاته التي ما خلق شيئا منها وباطلا وعاطلا ، وأن هذا النوع من الادعاء السقيم والزعم العقيم لا يمكن أن يصدر عن عاقل يفهم حقيقة الإيمان بالله والتوكل عليه وعن دارس لطبيعة الكون ومشيئة الله فيه لأن كل كائن حي من إنسان وحيوان بل ونبات يسعى دائما ويتحرك إلى ما يريده وقد يصل إلى غايته كما أراد أولا يصل ، وأن طبيعته تدعوه لى السعي والحركة فإن عليه أن يسعى وليس عليه إدراك المطالب ، ومن هذا المنطلق الفطري الذي أراده خالق الكون ومقدراته نرى بعين اليقين والإيمان أن كل ما يكسبه الإنسان ويقتنيه في حوزته ، من مال وعقار وجاه وسلطان ومنصب وثروة وشهرة إنما هو في الحقيقة والواقع من عند الله عز وجل ومسطور في كتابه الأزلي قبل خلق المخلوقات جميعا وفي هذه الوقفة الحساسة الهامة دعنا نقرأ بفهم ووعي وإيمان هذه الآيات البينات من الكتاب الحكيم لنزداد نورا في القلوب ويقينا في الأذهان وشوقا وذوقا لمعرفة آلاء الله رب العالمين التي لا تعد ولا تحصى على عباده في كل حين ، يقول تعالى : “وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم” (العنكبوت : 60) .
وأيضا يقول : “أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور” ( الملك : 21) ثم يقول : “ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم” (فاطر : 2).
قد جعل الله لكل شيئ قدرا
تتوارد الآيات القرآنية لتقرر أن كل شيئ في هذا الكون إنما هو بإرادة الله تعالى ومشيئته وكل ما هو آت مقدر ومحقق بإرادة العزيز الحكيم ، كما صرح به القرآن : “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون” (التوبة : 51) . ومنها قوله تعالى : ” ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا” (النساء : 132) ، ومنها أيضا : “قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير” (آل عمران : 26) ، فالجاه والسلطان والعزة والفخامة كلها بيده وقد قدرها تقديرا بعلمه حكمه .
ولكن هذا التقدير المسبق في علمه وقضائه لا يعطي الإنسان حق القعود عن اتخاذ الأسباب الظاهرية حسب مقتضيات الفطرة الإنسانية وعليه أداء واجبه وليس إدراك المطلوب وأن الإنسان الذي يعطل ملكاته وطاقاته وإمكانياته محتجا بالقدر أو متذري بالتوكل ، خارج عن نظام الخالق في كونه وبعيد عن الفطرة التي فطر الناس عليها فعليه أن يعمل بها أمره الله وليس له دخل فيما قدره الله وأراده وليس للإنسان إلا الأخذ بالأسباب الموصلة إلى ما يريد راضيا بكب ما يتحقق له من سعيه ذاكرا إرشاد رب العالمين .
:”وإن من شيئ إلا عندنا وخزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم” (الحجرات : 21) ، وعلى الإنسان أن يتذكر آلاف النعم التي تحيط به في كل حين فليس له ولا لأي مخلوق آخر مهما كان وكيف كان وأيا كان ، مثقال ذرة من دخل في إيصال تلك النعم إليه ، مثل نعمة البصر والسمع والعقل والقلب وهلم جرا فإذا اكتسب شيئا من تفاهات الدنيا بسعيه المنظور وصار في ملك يده على حد التعبير المشهور هلا يفكر في آلاف النعم الكبرى التي أتت إليه بالمنة الكبرى من أحسن الخالقين وخير الرازقين ؟ !