الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 21-يوليو-1986 م
لقد تسرب الشرخ الأول إلى كيان المجتمع الإسلامي منذ أن بدأ الانفصام في فهم معنى العبادة ومعنى الخلق ومعنى المعروف والمنكر في ضوء المصادر الأصلية للنظام الإسلامي ، كما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وخير القرون التي بعده ، وطبقوه في مناحي الحياة كلها وشؤون الدنيا بأجمعها ، حتى صاروا المثل الأعلى والقدوة الحسنة لخير أمة على وجه الأرض قلبا وقالبا ، دينا ودنيا ، ظاهرا وباطنا ، ولم ينفك عنهم الخلق الإسلامي المثالي النبيل في أية لحظة من لحظات الحياة سواء أكانوا في المساجد أو في البيوت أو في الشوارع أو في المتاجر أو في المصانع أو في المزارع أو في مكاتب الأعمال أو في ساحات القتال ، فكان الفرد المسلم تجسيدا حيا للأخلاق الإسلامية والسلوك السوي الذي دعا إليه القرآن وطبقه الرسول وأعلن عنه بكل صراحة ووضوح فقال : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ، فجاء هذا الإعلان مصداقا واقعيا لوصفه تعالى لنبيه إذ قال : “إنك لعلى خلق عظيم” .
أخلاقه في الشارع
إن النظام الإسلامي جزء لا يتجزء بحيث يشمل جميع مرافق الحياة البشرية وينبغي أن يكون المسلم مصداقا حيا واضحا للأخلاق الإسلامية في كل المرافق التي يزاول فيه أعمال ويواصل فيه نشاطه فإذا خرج من بيته إلى الشارع عموميا كان أو خصوصيا فيحب عليه مرعاة آدابه وحقوقه ومتطلباته ولا يجوز أن يرتع فيه مثل الماشية أو الدواب بدون ضابط وقيود ، ويقول الرب تعالى هاديا مرشدا لعباده إلى ضرورة التزام الهدوء والسكينة والحياء والوقار والاعتدال في المشي ، وفي تنقلاته : “وعبد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” (الفرقان : 63) ، ويستفاد من هذه الآية الكريمة أمران ضروريان لكل مسلم يتخلق بخلق الإسلام ، أولا : تجنب التبختر والخيلاء في تنقلاته في الشوارع والطرق بصفة خاصة مع أنهما من المنكرات المذمومة بشدة الإسلام في كل حال ومجال ، وثانيا : الابتعاد عن الخوض في لغويات الشوارع وملاهيها وأماكن الفضول فيها وعدم الالتفات إلى كلام السفهاء وغوغاء الجهلاء وضوضاء السفلة علما بأن أي مجتمع أو مكان لا يخلو عن مثل هؤلاء وأولئك ، والمطلوب من المسلم الواعي أن يستنكر ذلك وعدم الخوض في مثل ذلك تورعا وتخلقا بالأخلاق الكريمة .
ومن حقوق الشارع على المسلم إزالة الأذى عن المارة فيه من الحجر والشوك والمسمار والطوب وغيره وذلك بإرشاد واضح صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : “الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء سعبة من الإيمان” (متفق عليه) . وبعد أن بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطرق والشوارع جزء من الإيمان بحيث لا يكتمل إيمان مؤمن إلا بتحقيق هذا الجزء أيضا في حياته ، فما أنبل هذا الخالق الكريم ؟ وما ألزمه على المسلم اليوم ؟ فيقول بمزيد من التفصيل والإيضاح : “إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلثمائة مفصل ، فمن كبر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، عدد الستين والثلثمائة ، فإنه يمس يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار” (رواه مسلم) .
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” إياكم والجلوس في الطرقات” فقالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد ، نتحدث فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه ” قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : “غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ،والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر” (متفق عليه) .
….في المتجر والمصنع
إن معيار نجاح التجارة والبيع والشراء والإيراد والتصدير ، ورواج البضائع وكسادها ، وعدمه أو انتقاصه يدور إيجابا وسلبا ، معغ القانون الفطري العقلي السليم الذي وضعه رب البشر وأعلنه في كتابه المجيد إذ قال : “ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون” (المطففين : 1-3) . فقد بين القانون القرآني أن نجاح التجارة وخسارتها يتوقف على خلق الأمانة وقلته في المعاملات التجارية ، وأما المطفف وهو الذي بينته الآية التالية بأنه يستوفي حقه في الكيل أو الميزان عند شرائه وينقص أو يغش أو يكذب أو يخفي العيب عند بيعه في الكيل أو في الميزان ، وجدير بالذكر أن المسلمين الأولين كانوا يأخذون بزمام التجارة العالمية البرية والبحرية واشتهروا بالنزاهة والأمانة والاستقامة في المعاملات في أنحاء الدنيا وسجله التاريخ بمداد من نور ، ومنذ أن حادوا عن جادة الطريق والخلق الإسلامي وتسربت إلى معاملاتهم التجارية والمصنعية منكرات الأسواق من الكذب من أجل الربح وإخفاء العيب عن السلع ، وغش المشتري في الثمن والمبيعات ، تسرب الشك في المعاملات معهم واستولى عنوان : “صنع لندن أو أمريكا” على ألباب التجار والمستهلكين على أحد سواء ، في كل قطر في العالم العربي والإسلامي .
….في المكتب
فإذا انتقلنا من الشوارع والمتاجر إلى مكاتب الموظفين والعاملين في مختلف المصالح والمؤسسات نرى الطامة الكبرى في الاخلال بخلق المسلم الذي دعا إليه القرآن وعلمه رسول الهدى وفرضه العقل السليم في مثل هذه المواقع والخدامات العامة ، ويجب أن يفهم الموظفون والعاملون في المكاتب أنهم يتقاضون المرتبات من أموال الدولة والأمة للقيام بواجيات ومسؤوليات نحو الوطن والمجتمع ، وبعد أن تولى هذا المنصب بمقابل المرتب المتفق عليه بين الطرفين كان حقا عليه القيام بالعمل المطلوب وأن الأجر الذي يتقاضاه من باب الكسب الباطل أي بدون إذا أمهل أو أخل بواجبه وأن تربية أولاده وأفراد أسرته من ذلك المال لا تخلو من شائبة المال الذي حصل عليه بدون حق أو بتفريط فيه .