صوت الشرق مارس 1965 م
قامت الهند منذ استقلالها بثورة اجتماعية ديمقراطية ، لمطاردة الفقر والجهل والمرض في طول البلاد وعرضها ، فقد خرجت الهند من جهادها ضد الاستعمار ، جريحة مثقلة بأنواع من العلل الاجتماعية التي خلفها الحكم الاستعماري ، أو النظم الإقطاعية أو الطبقية السائدة في البلاد قبل الاستقلال .
ومن هذه الآثار التي تختلف عن الحكم الأجنبي ، والنظام الإقطاعي اللذين كانا يسودان البلاد في العهود الأخيرة ، والفوارق الاجتماعية الصارخة ، وعدم تكافؤ الغرص وتجميع الثروات في أبدى حفنة من الناس ، فكان لزاما على الهند المستقلة الحديثة أن تعمل منذ البداية لخلق نمط اجتماعي جديد متحرر من مساوئ الماضي ، متسم بالتقدم الاجتماعي ، والتطور الحثيث بطريقة منظمة ومدروسة .
واليوم يعد مرور خمسة عشر عاما على استقلال الهند ، ونحاول أن نلقي نظرة عامة على مدى هذا التطور الاجتماعي في البلاد ، في ظل حياة ديمقراطية ، وبوسائل سلمية .
المشروعات الجديدة
إن المجهودات الجبارة التي بدلتها ولا تزال تبذلها الهند لتطويرها الاجتماعي ، وتقدمها الاقتصادي تعد امتدادا لكفاحها من أجل الحرية ، والتخلص من أوزار الماضي ، وقد أدرك قادتها بثاقب أفكارهم أن الاستقلال السياسي ليس نهاية في ذاته ، بل هو وسيلة تمهد الطريق لبناء دعائم الرفاهية والحياة الكريمة للشعب ، وكانت المسؤولية الملقاة على عوائق ولاة الأمور الشاقة ومضنية لأن الهند تمثل خمس سكان العالم إذ تضم أربعمائة وخمسين مليون نسمة ، وفي الوقت نفسه كانت التقاليد المتوارثة ، والأفكار البالية منتشرة لدى جماهير الشعب .
وفي ضوء هذه الاعتبارات سارعت حكومة الهند إلى وضع مشروعات تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية ، والصالح العام في توزيع الثروة القومية ، والنهوض بالمدن والقرى على السواء ، وإفساح المجال أمام المواطنين جميعا لتكافؤ الفرص ، واستغلال الموارد الطبيعية في البلاد ، وتحسين المستوى الصحي لدى الأفراد والجماعات ، ونشر التعليم .
الإصلاح الريفي
وفي الهند اليوم 560000 قرية يسكنها 80% من مجموع سكان البلاد وقد اضطلعت البلاد بمشروع شامل للإصلاح الريفي يقوم على النهوض بالمجتمعات القروية ، يضع في الاعتبار أن يكون أفرادها قوة بناءة في صرح الهند كلها .
وقام هذا المشروع على تقسيم الريف إلى مجموعات لإفساح المجال لنمو القيادات المحلية ، والوعي الوطني والإيجابية والاعتماد على النفس .
إن أهم ما ينطوي عليه مشروع الإصلاح الريفي هو نشر التعليم ورفع مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرى والريف بصفة خاصة ، وقد امتد البرنامج إلى كل ركن من أركان البلاد ، بحيث يشمل جميع السكان الريفيين ، وتم توزيع ملايين الأطنانمن البذور الصالحة ، والمخصبات على القرويين لاستصلاح أراضيهم الزراعية ، وأنشأت مدارس قروية جديدة ، ونظمت حلقات خاصة لمكافحة الأمية ، وتعليم البالغين ، وفي عام 1953 شكلت حكومة الهند مجلسا مركزيا للرعاية الاجتماعية على أن تكون له فروع في جميع المقاطعات .
ومن أوجه نشاط مجلس الرعاية الاجتماعية المركزي ، تنظيم الهيئات والجمعيات التي تشرف على أعمال مراكز الصحة ورعاية الأمومة ، وتحسين الطرق الزراعية ، والمساكن الشعبية والنوادي الريفية ، وكان المجلس يتولى نصف النفقات المطلوبة لهذه البرامج ، وبينما تتولى الحكومات الإقليمية ، والهيئات المحلية النصف الآخر .
ويقوم المجلس بمنح الإعانات للهيئات والجمعيات التي تعمل لمحاربة الجهل والتدريب المهني للنساء ومساعدة الطبقات الفقيرة وتعليم النشء .
سياسة صناعية
حددت الحكومة أهداف السياسة الصناعية في البلاد على أساس زيادة الإنتاج ، واستغلال الموارد الموجودة في البلاد ، وتنظيم المصالح القومية ورغبة في تحقيق هذه الأهداف قسمت الحكومة الصناعات إلى ثلاثة أقسام :
1 – صناعة المواد الرئيسية ذات الاستراتيجية الخاصة مثل الأسلحة والذخائر الحربية والطاقة الذرية والموصلات الحديدية .
2 – الصناعات الثقيلة : مثل الحديد والصلب والفحم ، وكذلك الصناعة المعدنية .
3 – الصناعات الخفيفة الاستهلاكية : مثل صناعة المنسوجات والأدوية والمواد الغذائية وما إلى ذلك .
وراعت الحكومة في جميع مراحل التطور الصناعي الاستخدام الصحيح لمارد البلاد والاستفادة منها إلى أقصى حد ممكن ، وكذلك التوزيع السليم لمختلف الصناعات في جميع المقاطعات في أنحاء البلاد ، وكان هذا التوزيع مهمة شاقة نظرا لبعد المسافات وسعة المناطق الصناعية ، مع اختلاف المناخ وطرق المواصلات .
الصناعات اليدوية
إن للصناعات اليدوية دورا هاما في بناء دعائم المجتمع الهندي ، ومن النهوض بأنواع من الصناعات اليدوية منذ القدم مثل : النسيج وصناعة الأواني الفخارية ، والمصنوعات العاجية والمعدنية والزخرفية ، ولذلك تهتم الجهات المسؤولة باتخاذ الوسائل اللازمة لتنشيط الصناعات اليدوية والريفية ، لكي تتوافر الفرص أمام الجميع في الإنتاج حسب الأذواق والاستعداد الشخص لكي ينطلق التقدم الصناعي في مختلف المجالات .
ومما لا شك فيه أن تقدم الصناعات اليدوية يساعد على إنعاش الحالة الاقتصادية في الريف الهندي ، وكما أنها تزود الأسواق المحلية والخارجية بما تحتاج إليه من البضائع الاستهلاكية الشعبية ، وتسهم الصناعات اليدوية خاصة في خدمة الطبقات الفقيرة العاملة سواء في المدن أو القرى ، وثبت فيهم روح الاعتماد على النفس وقوة العزيمة .
المجتمع التعاوني
وبفضل الهيئات التعاونية في القرى الهندية ، انخفض مستوى الباطلة فيها ، وتهيأت الفرص لتسويق منتجاتها وتنشيط أسواقها وتشجيع أهلها على إقامة صرح الحياة الاجتماعية التعاونية واستغلال أوقات الفراغ في أمور تخدم الأمة الوطن بروح التعاون الوثيق .
وقد اشتملت الآن الحركة التعاونية على جميع سكان القرى الهندية في شتى مرافق الحياة وأصبح شعار كل قرية هو (مجتمع واحد ، وقرية واحدة) بعد أن كانت تسودها الطبقية والعصبيات العائلية والقبلية .
وتعتبر الهند من أوائل دول العالم التي عملت على تنظيم شؤون الأسرة وتثقيف الشعب وتبصيره بأموره وحقوقه نظرا لازدياد عدد السكان الهائل ، ونقص المواد الغذائية وقلة الوسائل الحديثة لرفع مستوى الإنتاج .
وما أن ظفرت البلاد باستقلالها حتى بدأت تبذل الجهود الجبارة لنشر الوعي الأسري بين السكان والعمل على إسعاد الأسر ورفع مستواها الاقتصادي ، والعلمي والاجتماعي والصحي .
وكان الهدف المنشود من تنظيم شؤون الأسرة تخطيطها في جميع مشاريع السنوات الخمس الهندية خلق أسرة سعيدة بالمعنى الحقيقي ، فأنشأت الحكومة مجلسا مركزيا لشؤون الأسرة على أن تكون له مراكز فرعية في جميع المدن والقرى ، فهي بمثابة النواة الاجتماعية الأولى في رعاية شؤون الأسرة في الهند وافتتحت تحت إشرافها المستشفيات المستوصفات والعيادات الخاصة لتقديم النصائح والمعونات إلى الأمهات ، وكذلك افتتحت المعاهد والمعامل للبحوث والتدريب على تنظيم الأسرة وتثقيفها ، وتشترك في هذه المهمة الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية بتقديم جميع التسهيلات اللازمة .
مكانة المرأة الهندية
ولعل الهند هي البلد الوحيد في العالم الذي نالت فيه المرأة حقوقا تشريعية وسياسية بدون كفاح أو امتهان لطبيعتها أو كرامتها ، فقد نالت المرأة حق التصويت والاشتراك في الشؤون التشريعية هناك منذ عام 1920 ، وأولى الولايات الهندية التي منحت المرأة الحقوق السياسية الكاملة كانت ولاية “ترافتكور” في مقاطعة “كيرالا” جنوبي الهند .
وأكد الدستور الهندي حق المواطنة الهندية في تولي جميع مناصب الدولة والاشتراك في الانتخابات – تصويتا وترشيحا – ونجد الآن نساء الهند في البعثات الدبلوماسية والوزارات المركزية والمحلية ، وفي المؤتمرات الدولية وفي البرلمان والمحاكم العليا وغيرها .
وجدير بالذكر أن تحرر المرأة الهندية من قيود الماضي واشتراكها مع الرجل في ميادين الحياة المختلفة لم يحولها عن الاحتفاظ بتقاليدها الموروثة واحتشامها الخلقي ، وهذه المشاركة قد ساعدت كثيرا على بعث النهضة الاجتماعية في البلاد ، وارتفاع المستوى العلمي والثقافي في المجتمع الهندي .
الثقافة الاجتماعية
والثقافة الاجتماعية في الهند جزء لا يتجزأ من الثورة الاجتماعية الشاملة وقد استمد شعب الهند روح هذه الثقافة من البساطة والتسامح وسعة الأفق التي تتسم بها الحضارة الهندية منذ القدم ، وطبقا لهذه الروح لا تعترف الهند بالتمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو الفوارق الاجتماعية التي كانت متأصلة في بعض طبقات الأمة في ظل النظام الإقطاعي وأنشأت الهند منذ الاستقلال آلاف المراكز لنشر الثقافة الاجتماعية وتلقين الشباب مبادئ المساواة والعدالة الإنسانية والتربية الوطنية على نحو تقدمي مستنير .