صوت الهند – القاهرة يونيو 1970 م
تمهيد :
إن دراسة التاريخ الهندي لممتعة ومفيدة ، وأن الهند لها حضارة عريقة في القدم ، فبينما نرى عدة حضارات قديمة قد انقرضت من الوجود ، نجد الحضارة الهندية القديمة باقية إلى يومنا هذا ، بملامحها الأصلية وأن الإنجازات التي حققها قدماء الهنود ، في مجالات الفلسفة والآداب والفنون والأخلاق والأديان ، لم تزل محتفظة بقيمها حتى عصرنا الحديث .
ولهذا تعتبر دراسة التاريخ الهندي من المواضيع النافعة لطلاب العلم ، في جميع المراحل التعليمية ، وكذلك لكل من يرغب في الإلمام بتواريخ وحضارات الأمم الأخرى ، التي أسهمت في بناء المجتمع الإنساني المثقف القائم على أسس قويمة ومبادئ سليمة ، ولكن موضوع التاريخ الهندي ليست دراستها بسهلة وهيئة لأن تاريخ الهند تعود أصوله إلى عصور بالغة في القدم حيث يصعب على الباحث تحديد منشأه بدقة ، ومن ناحية أخرى فإن الذي يريد دراسة هذا التاريخ باللغة العربية لا يجد أمامه من الوثائق والمؤلفات الأصلية ما تمكنه لدراسة موضوع التاريخ الهندي بطريقة سهلة ومفيدة ، وأما بعض الكتب والمقالات التي تحوزها المكتبة العربية فمعظمها مترجمة أو مقتبسة من مصنفات كتاب الغرب .
وقد تبين لي خلال عملي كمدرس في جامعة الأزهر من عام 1964م ، ومن اتصالي الشخصي بطلاب التاريخ في المعاهد والجامعات المختلفة في أنحاء العالم العربي أو موضوع التاريخ الهندي ، وبالأخص تاريخ الهند القديمة ، ما زال غير شائع ، من رغبتهم الملحة في الحصول على مزيد من الإلمام بهذا التاريخ ، وقد أبدى كثير من هؤلاء الطلاب رغبتهم في أن أقوم بوضع كتاب مدرسي في هذا الموضوع ، أو نشر سلسلة من المقالات تتناول شتى نواحي التاريخ الهندي ، حسب ترتيب الوقائع والتسلسل التاريخي ، ونزولا على رغبة هؤلاء الطلاب والأصدقاء ، ووفاء بالوعد الذي التزمت به معهم ، عزمت على أن أقدم لهم على صفحات “صوت الهند” في إعدادها القادمة سلسلة مقالات تلقي الضوء على “التاريخ الهندي” في مختلف مراحله وأطواره ، وأبذل جهدي المتواضع لأن تكون هذه المقالات بأسلوب سهل بعيد عن التعقيدات الاصطلاحية واللغوية ، بقدر ما وصل إليها علمي ، وآمل أن تكون هذه السلسلة من المقالات نافعة وممتعة لكل من يرغب في دراسة التاريخ الهندي إذ يستطيع من خلالها أن يقوم بتطواف سريع حول حضارات الهند ، وشعوبها ولغاتها وتطوراتها السياسة والثقافية من عصر ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحاضر .
جغرافية الهند :
إن موقع الجغرافي لكل بلد هو الذي يشكل الاتجاهات التاريخية له إلى حد كبير ، كما أن للمناخ والأنهار والجبال والصحارى ، التي تتكون منها أوزاؤه ، دورا كبيرا في تشكيل حياته وتوجيه أفكاره ، والهند واسعة الأرجاء وتبلغ مساحة أراضيها أكثر من مليون ميل مربع ، مع ما يقرب من خمسة آلاف ميل من الحدود البرية .
وتقع الهند جغرافيا في وسط القارة الأسيوية ويمر بها جميع الطرق التجارية – البرية والبحرية – من أوربا وأفريقيا إلى الشرق الأقصى .
ومن الناحية الجغرافية تنقسم شبه القارة الهندية إلى أربع مناطق رئيسية ولكل منها طابعها الخاص .
وهذه المناطق الأربع :
1 – منطقة الجبال الشمالية ، وهي تتكون من سلسلة طويلة وعريضة من الجبال الممتدة من خليج البنغالي إلى كشمير ثم إلى بحر العرب ، ويبلغ طول هذه السلسلة الجبلية ، حوالي 1500 ميل وعرضها 200 ميل .
وأما سلسلة جبال الهيمالايا الشهيرة فجزء من هذه المنطقة الجبلية الشمالية لشبه القارة الهندية ، وإن الهيمالايا لمغطاة بالثلوج في جميع فصول السنة ، وهي تقف بمثابة حارس جغرافي للهند ضد الرياح الباردة التي تهب من آسيا الوسطى كما أنها تسيطر على الرياح الموسمية .
وتنبع من الهيمالايا ثلاثة من الأنهر الهندية الكبرى وهي : السند وجانجا وبراهمابوترا ، وهي التي تزود سهول شمالي الهند بالمياه اللازمة لزراعتها ومواشيها ، واعتبر قدماء الهنود منطقة الهيمالايا مأوى للنساك والرهبان منذ القدم فقدسوها ، وكانت الهند تستخدم ثغور وممرات هذه المناطق الجبلية كطريق لتوثيق العلاقات التجارية والسياسية مع بلدان غرب آسيا (الشرق الأوسط) .
2 – سهول جانجا ، تكونت السهول الواسعة الخصبة الممتدة في شمالي الهند من الطمى والرمال الراسية من نهري جانجا والسند ، ويبلغ طول مساحة هذه السهول حوالي 2000 ميل وعرضها فيما بين 150 – 200 ميل ، وتعتبر هذه المنطقة من أهم المراكز للثقافة الهندية الأصلية فقيها معظم الأماكن المقدسة لدى الطوائف الهندوكية والبوذية والجينية والسيخية ، وكذلك تمتاز هذه البقاع من البلاد وأمنها ووحدتها .
3 – سهول السواحل ، وتقع هذه المنطقة بين سلسلة الجبال الغربية وبين سواحل البحار الهندية ، وكانت هذه السواحل – في جميع العصور – مراكز التجارة البحرية للهند وفيها مئات الموانئ والمرافئ الصالحة للتجارة البحرية المحلية والعالمية ، واشتهر أهالي هذه المنطقة في ميدان التجارة والملاحة البحرية منذ القدم ومن هناك كانت الهند تصدر التوابل والمنسوجات والأحجار الكريمة وخشب الصندل والأرز وغيرها من منتجات الهند إلى البلاد الأخرى ، وقد ساعدت المراكز التجارية المنتشرة في هذه السواحل على ربط الهند مع الشرق والغرب على حد سواء .
4 – هضبة الدكن ، وهذه الهضبة الجنوبية تفصلها عن شمالي الهند سلسلة جبال وندهيا ، وكذلك تحيطها السلسلة الجبلية من الشرق والغرب إلى الشرق وبالتالي تنساب أنهر الدكن إلى جهة شواطئ الهند الشرقية ، وتكثر فيها الغابات والمرتفعات والتلال ، وإن هذا الوضع الجغرافي الفريد قد جعل من المنطقة مكانا ممتازا دفاعيا ، كما أن لهذا الوضع أثرا واضحا في تغليب صفة الاعتماد على النفس وحب العمل المتواصل في سكانها .
وإن لهذا الاختلاف في المناخ وفي طبيعة الأراضي وفي نظام الحياة الزراعية وفي تربية الحيوانات وفي طرق المواصلات قد أدى إلى انقسام الهند إلى مناطق جغرافية مختلفة ، وإن هذا الاختلاف قد تسبب أيضا في إيجاد اختلاف في عادات الناس سواء في الملبس والمأكل والاختلافات الشعبية ، ولكن يجدر بنا أن نعيد إلى الأذهان أن الهند على رغم وجود هذا التباين الإقليمي والتغاير البيئ ، قد حافظت دائما على إحساس قوي من “الوطنية العامة” حتى صار شعار فلسفتها :”الوحدة مع التنوع” .
(يتبع ..)