الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 13-مايو-1986 م
لقد أظل شهر رمضان الذي أنزل فيه الدستور الإلهي الخالد ، ليعد إلى حياة البشرية معالم الحياة الإنسانية الفطرية يسودها الأمن والأمان ، والحب والوئام ، والود والسلام ، في جو من الأخوة الصادقة والتعاون الوثيق ، وقد سمى هذا الدستور النظام الذي أعلنه على البشر كافة “الإسلام” ، وإنما يعني لفظ الإسلام في مفهوم القرآن إسلام القلب لله وحده لا شريك له ، وأطلق القرآن اسم “الإسلام” على أنه اسم للدين الذي أنزل على كل الأنبياء وأمن به أتباعهم ، ولفظ “مسلم” أطلق على كل من أسلم بالله وتمسك بطاعته ، وقد ختم الله سبحانه وتعالى حلقات هذا الين الإسلامي بالقرآن الذي أنزل على خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال :”اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة : 3) .
لفظ “الإسلام” يدعو إلى الوحدة والسلام
إن إسلام الوجه لله تعالى واتخاذ دستوره نظاما للحياة يوجب على كل مسلم كفرد وعلى المسلمين عامة كأمة الإسلام أن يعيشوا في سلام ومساواة وأخوة وتعاون وحرية وأن العقيدة الإسلامية هي أساس الأخلاق الكريمة والمعاملات الحسنة كما أنها خير علاج للأهواء ، والمطامع الشخصية والمآرب الذاتية فالناس قد زين لهم حب الشهوات ، وأن سلطانها في ذات الإنسان قوى على قلبه وجوارحه ، وأن العقيدة الإسلامية الصافية هي التي تحرر الإنسان من عبودية الشهوة ، وتحد من سلطان الغرائز ، وتصنع لها الحدود المناسبة وتستجيب لدواعيها بالطريقة المشروعة وتقضي على الصراع الذاتي بالإيمان والسلوك القويم وحينما يحقق الإنسان التوازن بين العقل بمبادئه والقلب بغرائزه تتهذب النفس وتصفو من أدران الأحقاد والضغائن والكبرياء والغطرسة ، وقد وضع القرآن في أول ما نزل من آياته في هذا الشهر العظيم قاعدة الوحدة بين الناس من إسلام الوجه لرب العالمين الذي خلقهم وصورهم بأحسن تقويم ومن تحذيرهم عن الطغيان وحب الاستغناء فكل منهما بؤرة الفساد والفوضى ومصدر الفرقة والشتات بين إنسان وأخيه الإنسان ، فيعلن أول ما نزل من هذا الدستور الرباني الذي جاء نورا وهدى لتحقيق السعادة للبشرية كافة في الحياة الدنيا والحياة الأخرى لأنهما في الحقيقة وجهان أو شكلان مختلفان لحياة واحدة فإن الموت ليس نهاية للحياة بل هو الانتقال من دار إلى دار فلكل منهما طبيعتها ونظامها فالأولى دار العمل والثانية دار الجزاء والأولى دار الفناء والثانية دار البقاء والأولى دار الفرار والثانية دار القرار وهكذا ، “اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى” (العلق : 1-8) ، وتمر السنون والشهور ، وهذا الشهر المبارك يطل على المسلمين ليعيد إليهم المعاني الكبيرة والقيم النبيلة التي يجب أن لا تغيب عن حياتهم في تقلبات العصر وتغيرات الزمن وتجددات الظروف ، ويذكرهم هذا الشهر أن الطغيان والأثرة والإنسانية سوف يؤدي إلى تسرب الوهن والضعف إلى كيان الأمة الإسلامية فتزداد الفتن وأسباب الفرقة فيضعف التألف والتعاون والتقارب بين أوصالها فيطمع فيها الأعداء وتندس في صفوفها الشياطين من الإنس والجن ليفسدوا فيما بين جماعات المسلمين ودولهم وحكوماتهم وليبثوا بذور الشقاق بينهم ، وإنما تأتي هذه المصائب حين ينسون نصح الله تعالى لهم ويضعف الإيمان برب العالمين في قلوبهم وأن رمضان هو الموسم الذي يذكر أمه القرآن بهذه المسئولية كلها .
وحدة الصف مسؤولية كل مسلم
هناك بعض المفاهيم الخاطئة فيما يتعلق بشؤون الأمة أو المجتمع وفيما يتعلق بشؤون الأفراد من حيث كونها من الأمور والأحوال الشخصية مثل عبادات الأبدان كالصلاة والصوم والحج وغيره وأما مسئولية المحافظة على وحدة الصف بين المسلمين فإنما هي مسئولية في عنق كل مسلم ، وليس فقط مسئولية حكام المسلمين أو علمائهم أو دعاتهم .
وقد أوجب القرآن على كل مسلم احترام حقوق الغير وأحاسيسه ومشاعره فلا يجوز لمسلم أن يحقر أخاه المسلم فإن ذلك يتسبب في الخصام والنزاع والفرقة فالقتال .
وفي مقدمة أسباب الاحتقار المؤدي إلى الانفصام السخرية فيمتنع القرآن منعا باتا هذه الخصلة المؤذية فقال :” يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن” (الحجرات : 11) .
وهكذا يحمي الإسلام الساخر من نفسه كما يحمي أخاه منه ، ثم قال :”ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون” (الحجرات : 11) فكيف يتوقع إنسان عاقل من إنسان آخر يسخر منه ويحقره ويضحك عليه أن يتخذك أخا ويدافع عنك وينضم إلى صفوفك عند الشدائد ؟ ومن منافذ الفرقة والخصام أيضا سوء الظن والبحث عن عيوب الآخرين فقال تعالى :”يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا” (الحجرات : 12) وهكذا قد جعل الله سبحانه وتعالى مسئولية وحدة الصف وسد باب الفرقة والنفرة بين الأخوة مسئولية شخصية بحيث أصبح كل مسلم مسئولا عن درء المفاسد والابتعاد عن الأسباب المؤدية إلى فتح الخصام والنزاع بين المسلمين ، وكما أعلن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بكل وضوح وجلاء :”المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل مسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه ، التقوى ههنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” (متفق عليه) ثم قال :”لا يحب أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (متفق عليه) .
الإصلاح بين المسلمين بالعدل والقسط
ولا تتوقف مسئولية العمل لتوحيد صفوف المسلمين على أن يعمل كل مسلم في حدود ذاته وفي نطاق فرديته فحسب بل يجب على الأمة الإسلامية اتخاذ الخطوة الأولى في فض النزاع بين المسلمين بالحسنى والعدل والقسط بدون أي انحياز أو انحراف عن طريق الحق والإنصاف ، وإلى هذه المهمة الملزمة للمسلمين جميعا يدعوهم رب العزة فقال :”وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين” (الحجرات : 9) .
ويجب على المصلحين أولا معرفة سبب النزاع ثم القيام بسعي عادل ومقبول عند العقل السليم ، لدى الطرفين لحسم النزاع سلميا لأن العزة والكرامة في العودة إلى أمر الله وعدله وفضله ، وأن الاستمرار في الاستعلاء والاستكبار سيجلب الخزي والذل لكلا الطرفين أمام الناس أجمعين وخاصة يجلب ذلك الوضع شماته الأعداء ويفتح الباب أمامهم للانكباب على الطرفين معا ، وأن هذا الشهر قد ارتفع بالمسلمين عن نعرات الطائفية والعنصرية والقبلية ، وحثهم على تأصيل معاني الأخوة وتعميق مبادئ الارتفاع عن الأنانية والطمع والجشع حتى يكونوا في هذا الشهر شاعرين بصدق واستجابة لنداء شهر القرآن بالتساوي والتكافل بين جميع أفراد الأمة وجماعاتها .
إن هذه أمتكم أمة واحدة
إن شهر القرآن يدعو المسلمين بكل قوة وصراحة إلى العودة إلى الرشد العقلي والتدبر الفكري كما أنه يدعوهم إلى التوقف عن التراشق فيما بينهم لأسباب تافهة ، وإلى أن يكونوا بمستوى إسلامهم ومستوى مسئوليتهم الكبرى في هذا العصر الخطير المحفوف بأنواعه من الحروب والكروب والألاعيب والخفافيش جنا وإنسا ومن حق هذا الشهر العظيم على كل مسلم أن يشعر بأنه فرد من الأمة الإسلامية التي أراد الإسلام أن تقوم على وحدة الهدف ووحدة الصف ووحدة المنهج في الحياة ، وأن الخصومات والحروب التي تجري بين طوائف ودول هذه الأمة إنما تعرض حاضرها للخطر وتضع مستقبلها في كفة القدر ، وأن هذا الشهر فرصة للمسرفين والمعاندين ، والمكابرين بل والقانطين من صلاح الوضع الراهن للعودة إلى جادة الطريق ونداء العقل السليم ، “ولا تقنطوا من رحمة الله” صدق الله العظيم …..