في رحاب رمضان المبارك
رمضان شهر التهذيب والتأديب والتطهير والتعمير !
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 21-مايو-1986 م
لقد خص الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بالصيام دون سائر الشهور وذلك لفضل هذا الشهر حيث أنزل فيه الدستور الخالد الإلهي نورا وهدى للناس جميعا ، يهديهم إلى الصلاح والتقوى ، فقال عز وجل مبينا هذه الخصائص لهذا الشهر :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه …” ثم قال في بيان حكمته وغايته :”كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” وفي قوله “لعلكم تتقون” إشارة بليغة وجيزة إلى غاية الصوم وحكمته وهي “التقوى” بمعناها الواسع ، وهو يحقق ثمرتين مفيدتين هامتين للإنسان في كل الظروف والبينات ، الثمرة الأولى هي التقوى والاتقاء والوقاية ، وأن الصوم الصحيح السليم القويم ، يصون الإنسان ويقيه من الآفات والعلل والأمراض والزلل والثمرة الثانية هي القوة والمناعة والحصانة فإذا كان الصوم في ظاهره حرمانا تقليلا من المتع الدنيوية من الأكل والشرب وغيرهما فإنه في حقيقته يكسب للجسم والنفس والروح قوة وسلامة وحصادة ، فهكذا يوفر الصيام للإنسان مصادر القوة وموانع المضرة إلى جانب الصحة والعافية فلم يعد مجرد طقوس وشعائر وعادات بل كان مصدر تهذيب عميق وتعمير لطاقاته وقدراته .
الصيام يصلح ما أفسده الإنسان طوال العام
إن الناس قد انحرفوا بحكمة الصوم وغاياته فجعلوه شهر إسراف في ألوان الطعام وأصناف الشراب وأشكال المرطبات والحلوى ، ومن العجب العجاب أن بعض الناس يستعدون لأطعمة وأشربة رمضان قبل حلوله بأسابيع وأيام وتمتلأ الأسواق بالمواد الغذائية الرمضانية ولو بشق الأنفس وعلى حساب مصالح أخرى .
ومن المعلوم طبيا وعمليا أن إرهاق المعدة بالطعام الكثير أو الزائد على حاجتها يسيئ إلى الجسم عامة ويجلب عليه وألوانا من المرض ، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن الإسراف في الأكل والشرب فقال : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين” ، وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم :”إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت” ، ثم قال :” ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه” ، ومن هنا قال :” صوموا تصحوا” .
وجدير بالملاحظة أن المعدة هي العضو الوحيد الذي يعمل دائما داخل الجسم طوال العام فهي يحتاج إلى راحة في بعض الفترات وإذا لم يعطها صاحبها هذه الفرصة اختيارا أخذتها المعدة بنفسها على الرغم منها اضطراريا فتجلب على صاحبها أضرارا ومتاعب لأنها تستريح عن طريق المرض فتتعب صاحبها وتكلفه الكثير من الجهد والمال في علاجها وإعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية ، ولهذا السر فقد أعطاها الدين الإسلامي الذي هو هدى للناس وشفاء عام ، هذا الشهر المبارك من كل عام ليصوم فيه الإنسان فتهدأ معدته وتستريح ، وتكسب له الصحة والعافية ومجالا ووسيلة للعبادة والطاعة بنشاط وهمة وراحة .
وأن الإنسان الطبيعي هو الذي يعمل بجد واجتهاد وينتج ما يفيد لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء ، والتقوى الذي يهدف إلى تحقيقه الصيام هو يعني : فعل كل خير جميل يحبه الله ويحمد صاحبه عليه في الدنيا ويثاب عليه في الآخرة وكذلك اجتناب كل عمل ذميم يؤدي نفسه أو مجتمعه أو وطنه .
فجاء الصيام وسيلة واضحة لتطهير النفس من الفساد المادي والمنوي ولتهذيبها بخلق حسن وعمل صالح ، وأن التشريع الإسلامي لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة ويدفع عنهم مضرة وقال تعالى : “وأن تصوموا خير لكم” ، وأن الخيرية بصيغة العموم تفيد سائر أنواع الفوائد والمنافع التي يحتاج إليها الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية .
شهر البناء والتعمير
إذا عرفنا أن رمضان شهر الوقاية والهداية وتهذيب النفس ، عرفنا أنه شهر الأعمال الإيحابية البناءة وليس شهر الإرهاق والكسل والنوم ، وقد عرفنا الفوائد الصحية في الصيام السليم والفوائد الروحية والنفسية والخلقية فإنما هو في الحقيقة والواقع تربية عملية مشهودة لكي يستطيع صاحبه القيام بأعمال صالحة نافعة لنفسه ولمجتمعه ولوطنه ولكافة البشرية بفضل القوتين اللتين جمع بينهما بواسطة ميزات الصيام في هذا الشهر الذي اختاره الله تعالى بداية لنزول دستوره الخالد ، لوضعه موضع التنفيذ بيد خاتم رسله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم فجعل ليلة بدء نزول القرآن في رمضان ليلة هي خير من ألف شهر ، “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، سلام هي حتى مطلع الفجر” .
وتتكرر هذه الليلة مع مزاياها وفضائلها كل عام لتجدد إلى نفوس المؤمنين ذكريات كل ما ينطوي عليه هذا الشهر من معان سامية ودروس وعظات غالية ليزدادوا قوة وصفاء وخلقا حسنا وليضيفوا لبنات جديدة في بناء وتشييد صرح الأمة الإسلامية ، بروح عالية وهمة صافية .