قضية فكرية
مخاطر الانبهار الأعمى بأفكار الغربيين وآراء المستشرقين
الشرق الثلاثاء 20-أكتوبر-1987م
منذ أن بدأ العالم العربي والإسلامي يتدهور سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا ، وأخذ الغرب يسطو على معظم بلدان العالم الإسلامي ويستولى على ثرواته ، ووصل الغربيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد إلى أوج القوة المادية والعلمية ، طغى على العرب والمسلمين المغلوب عليهم شعور بالنقص والضعف وعدم الثقة بأنفسهم إزاء الغرب وكل ماهو غربي ، ومن ناحية أخرى إن هذه البغية السياسية والقوة المادية والنهضة العلمية قد أدخلت في نفوس الغربيين غدرا كبيرا من الغرور بأن العقلية الغربية هي العقلية المتفوقة وان عقلية الشعوب الشرقية بسيطة وساذجة وخاصة الإسلامية منها .
وكان من المؤسف جدا أن علماء الغرب ومفكريهم ومؤرخيهم لم يسلموامن هذا الغرور وهم لم يحكموا إلا على ضوء ما رأوه بأعينهم وقرؤوه من كتابات ومؤلفات بعض عملاء القوى الاستعمارية أو المنبهرين بها من ضعاف الشعوب التي وقعت تحت تلك القوى وما سادها من جهل وتخلف وفرقة من جراء سياسة الاستعمار الغربي القائمة على فلسفتين “فرق تسد” و”امتصاص دماء الشعوب الشرقية” ، وبعد أن تم استيلاء الغرب على أكثر أقطار العالم العربي والإسلامي عسكريا واقتصاديا بدأت محاولات الغزو الفكري والتحدي العقدي بقصد الانتقام من الإسلام وحضارته لأن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الحروب الصليبية ، ولا أن يخرج من ذاكرتها أن الإسلام بقوة مبادئه ونزاهة حضارته ورفعة تعاليمه القويمة الفطرية – ظل يهددها في عقر دارها بضعة قرون ، وأوضح دليل مادي على عمق التعصب الديني الذي استمر لدى ساسة أوروبا وقادتها العسكريين الكلمة المشهورة التي قالها اللورد “اللنبي” عندما دخلت جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بيت المقدس :
“الآن انتهت الحروب الصليبية ، وأصبح التحامل على الإسلام وأهله غريزة موروثة تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من خلفيات وأهداف .
أهداف الغرب من الدراسات الإسلامية
ومن هنا بدأت الدراسات الغربية عن الإسلام وتاريخه تنمو وتتكاثف بقصد تبرير سياسة الاستعمار الغربي نحو الشعوب العربية والإسلامية ، وبهدف إثبات تفوق العقلية الغربية ودقة تفكيرها لكي ينتشر بين الأجيال الحاضرة والقادمة اعتقال راسخ أن الحضارة الغربية تفوق جميع الحضارات في التاريخ وأن التفكير الغربي منطقي وسليم ، وأما الشعوب الأخرى ، وخاصة العربية والإسلامية فعقليتها بسيطة وساذجة ولا تدرك الأمور إدراكا كليا ، وقد أدركوا بطول باعهم في ممارساتهم الاستعمارية والمخططات الكيدية تجاه الشعوب الإسلامية واحتكاكهم مع حكامها وقادتها وعامتها أن المواجهة الصريحة للمسلمين في عقيدتهم لن تحقق الهدف المنشود سوى استفزاز مشاعرهم وإيقاظهم إلى الكيد المرصود لهم فيزيدهم تمسكا بهذه العقيدة ودفاعا عنها ، ولذلك لجأوا إلى خطة دس السم في العسل ، فيبدأون بتمجيد الإسلام ورسول والإشادة بحضارة المسلمين وبحوثهم العلمية فإذا اطمأن القارئ المسلم إلى أنه في جو علمي منصف لا يضمر للإسلام وأهله أي سوء في النية ، وتخلى عن الانتباه واليقظة ، ففي هذه المرحلة يدس له السم وهو غافل ، وتحقن في غمرة هذا التمجيد الشبهات الغامضة والتشويهات الخفية التي توصل في النهاية إلى التشكيك في حقائق العقيدة الإسلامية ومبادئها الأصيلة .
وقبل أن يستفيق أحد الدارسين من غفوته وغفلته وينتبه إلى عنصر الكيد فيما يقرأه من أعمال لكتاب الغرب والمستشرقين المسيحيين ، يقوده الكاتب إل جو الثقة الصادقة ، وإلى فكرة النزاهة العلمية الكاملة ، حتى إذا قيل له فكيف تنتظر من مستشرق غير مسلم أن يكون مخلصا في كل ما يكتبه عن الإسلام وحضارته ؟ وكيف تتخذ كتاباته مصدر المعرفة في عقيدة الإسلام ومسائله ، ومرجعا أصليا في الدراسات الإسلامية ؟ فيقول بكل ثقة وصدق نية أنه يقدم لنا بحوثا علمية منهجية مستقلة بعيدة عن العواطف الدينية والتعصب العقدي ، ويردف هذا القارئ قوله :”إننا نأخذ عن هؤلاء المستشرقين وغيرهم من علماء الغرب المسيحيين نتائج بحوثهم المستانية الصابرة المنقبة في بطون أمهات الكتب الإسلامية ، وأن هؤلاء المستشرقين قد أدوا خدمات جليلة للمباحث الإسلامية بطريقة منظمة” ، وهكذا وصلت خطة كيدهم المنظم للإسلام وتاريخه وعلومه ورجاله إلى حد أن بعض المثقفين من المسلمين يثقون في كتاباتهم كل الثقة ولا يشكون في حيادهم وإنصافهم فيجعلونها مراجع لهم لا في الحوادث التاريخية والتحقيقات العلمية ، بل في البحث عن تصور الوحي والنبوة والعقيدة الإسلامية ، وأصول الدين ، عن حياة رجال الإسلام البارزين الذين هم موضع القدوة ، وكل هذا وذاك دون فطنة إلى أن الهدف الخفي للمستشرقين والمبشرين الذين يحركهم الاستعمار الصليبي والتعصب المسيحي ، هو تلبيس العقيدة الإسلامية وتشويه التصور الإسلامي الصحيح ، والتشكيك في شخصيات ودوافع رجال الإسلام الكرام الذين ضحوا بأنفسهم وما يملكون في سبيل خدمة هذا الدين وإعلاء كلمة الله على وجه الأرض مخلصين له الدين .
الانبهار والشعور بالنقص
وهذه الثقة العمياء المصحوبة بالانبهار القوي هي الغاية القصوى التي يهدف إليها أعداء الإسلام من رجال التبشير وقادة الاستعمار الذين يعملون ليل نهار للقضاء على العقيدة الإسلامية وسلخ الناس منها وتفتيت العالم العربي والإسلامي ، إن هذا الانبهار بأفكار المستشرقين وعدم الثقة بأنفسنا إزاء بحوثهم وتحقيقاتهم العلمية ليس بناشئ من فراغ ولا بقائم على اتجاه فكري ، لكنه وليد جهود جبارة ودراسات مضنية وخطط منظمة وضعت موضع التنفيذ بدقة وحذر ومهارة ، وفيما يلي لمحات من أسباب ذلك الانبهار والشعور بمركز النقص .
بدأ اتصال العالم العربي والسلامي بالحضارة الغربية في أوائل القرن العشرين ودبت نهضة ثقافية عامة في البلاد العربية والإسلامية ، فوجد المثقفون بثقافات عالية عصرية من الجيل الجديد من المسلمين الكتب العلمية والثقافية والأدبية عند المستشرقين خاصة وعلماء الغرب عامة منظمة تنظيما حديثا ، بينما وجدوا التراث العربي والإسلامي مبعثرا في كتب قديمة غير منظمة على عكس غرار تنظيم الكتب العلمية عند الغربيين والمستشرقين ، وبينما ورأوا تقاعس علماء المسلمين عن التحقيقات العلمية الجادة شاهدوا بعض المستشرقين يفنون أعمارهم في دراسة التراث العربي – الإسلامي وتتبع مصادره في خزائن الكتب شرقا وغربا ، حتى ليظل بعضهم عشرات السنين في تحقيق كتاب عن ناحية من نواحي الثقافة الإسلامية معتمدين على مصادر قديمة من كتب أوائل علماء العرب والمسلمين .
ولما رأت هذه الطبقة من المثقفين المسلمين ذلك الدأب المتواصل عند المستشرقين والتفرغ الكامل لتنظيم التراث العربي والإسلامي ونشره في مختلف اللغات انبهرت أبصار أولئك المثقفين بجهود هؤلاء المستشرقين ، واستولى أسلوبهم الحديث على ألبابهم فاندفعوا إلى أتباع طريقتهم في البحث والتحقيق وأعجبوا بعلمهم واطلاعهم الواسع على تراث المسلمين ، واعتقدوا أو مثل هؤلاء العلماء الباحثين لا يهدفون إلا إظهار الحقائق وفق منهج علمي دقيق ، وهكذا نشأت الثقة العمياء ببحوث هؤلاء المستشرقين وآرائهم وأفكارهم ، وبالتالي انصرفوا عن الرجوع إلى المصادر الإسلامية الأصلية التي استقى منها المستشرقون أنفسهم ، ومن الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاندفاع .
أولا : صعوبة الرجوع إلى تلك المصادر .
ثانيا : الرغبة في سرعة الإنتاج العلمي بدون التفرغ الكامل .
ثالثا : حب الظهور بإتيان بحث جديد بأسلوب جديد ونشر أفكار حديثة غير سائدة في الأوساط العلمية والدينية في الزمن القديم ، حتى انتشر في أذهان هؤلاء المثقفين الاتكال على المستشرقين في معرفة حقائق عقائد المسلمين وتشريعاتهم ومذاهبهم الفقهية .
الاعتبار بالهدف لا بالجهد
ولا شك في أن الجهود الضخمة التي بذلها المستشرقون في إحياء التراث العربي والإسلامي وف تحقيق النصوص القديمة ونشرها صفات نادرة يجب أن يتصف بها العلماء الباحثون ، وفيها عبرة وقدوة للعلماء العرب والمسلمين الذين هم حماة هذا التراث وأصحاب هذه النصوص ، وعليهم بذل كل الجهود لحفظ هذه الكنوز ونشرها بشتى الوسائل الممكنة ،ولكن الاعتبار ليس فقط ببذل الجهد ونشر التراث ، وإنما الاعتبار الحقيقي بالهدف الذي يبذل من أجله ذلك الجهد وكذلك النتيجة الحتمية التي يوصل إليها في النهاية .
وأما الاستعمار السياسي والتبشير المسيحي والغزو الصليبي فقد استغل الاستشراق استغلالا فظيعا لفرض الوصاية الفكرية أيضا على العالم العربي والإسلامي ، بينما استمد المستشرقون قوتهم من ضعف العرب والمسلمين السياسي والمادي وعجزهم عن معرفة ذاتهم في خضم التخلف الحضاري والاقتصادي .
وحينما يضع العرب والمسلمون عن أنفسهم أغلال الوصاية الفكرية ويتحررون من عقدة التخلف الفكري والعلمي ومن عقدة مركب النقض تجاه كل ما يأتي من الغرب ويتركون نظرة التقدير والتعظيم إلى نهج الغرب في كل شيء ، وعادة تلقيه بدون فحص وتمحيص يعرفون حق المعرفة أن الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات العربية والإسلامية في أوربا وأن إقامة مؤسسات ضخمة تصرف عليها ثروات باهظة لدراسة التراث الإسلامي لم يكن أمرا عاديا ولا من قبيل الصدقة ، وباختصار شديد إن جهود المستشرقين بصفة عامة تسير دائما في اتجاهات ثلاثة متكاملة ومترتبة وهي :
أولا : نشر التبشير المسيحي بين المسلمين .
ثانيا : إظهار نقائص مزعومة في الإسلام وحجب حقائقه عن المسيحيين لمنعهم من الاطلاع على حقيقة الدين الإسلامي وخطر اعتناقه .
ثالثا : محاولة لإبراز أن الإسلام دين مأخوذ من اليهودية والنصرانية وبالتالي الانتقاص من قيمته والحط من قدر نبيه وكتابه القرآن الكريم .
وأن المستشرقين يعملون لتحقيق هذه الأهداف من وراء ستار علمي تراثي بوعي ونظام .
ومن الصعب على أي باحث تاريخي حاد البصر ومرهف الحس أن يعتقد أن هؤلاء المستشرقين المشتغلين بدراسة الإسلام وحضارته وتاريخه ونبيه وكتابه ، وأكثرهم مسيحيون متدينون ، يخدمون دينا ينكر عقائد أساسية في النصرانية ويفندها مثل عقيدة التثليث وعقيدة الصلب ، وبعد هذا كله أنهم لا ينسون أن الإسلام هو الدين الذي قد قضى على النصرانية في كثير من بلاد الشرق وحل محلها ، وبث نفوذها في عقر دارها في أوروبا قرونا عديدة .
وأما التزام بعض الباحثين المستشرقين بالحيدة والموضوعية في بعض المسائل العلمية أو التاريخية فلا يمنع تسجيل انحراف الأغلبية الغالبة منهم من النزاهة العلمية وتحاملهم على الإسلام وتشويه صورته ومحاولتهم لزعزعة عقيدته النقية الحقة ظلما وبهتانا وإفكا مبينا .
مسؤولية الطبقة المثقفة
وقد حان الأوان لأن تعمل الطبقة المثقفة من العرب والمسلمين لتحقيق الاستقلال الفكري والشعور بشخصيتهم وقيمة حضارتهم وتراثهم والشعور بالخجل من الاتكال على المستشرقين في معرفة ما عندهم من عقيدة وتشريع وفقه وتراث علمي ، وكذلك ينبغي لعلماء العرب والمسلمين وباحثيهم ومحققيهم أن يستعملوا نفس المعايير التي يأخذ بها المستشرقون عند نقد تعاليم الإسلام وتاريخه ونبيه وأئمته ، في نقد ما عند الغرب من دين وحضارة وكتب مقدسة وعلوم وتراث ، فعندئذ تظهر الصورة الحقيقية عن عقائدهم وحضاراتهم وعلومهم الخاصة بهم ، فلعلهم يخجلون بما عندهم وينبهرون بدورهم ، بما عند العرب والمسلمين في الحقيقة قبل التشويه والتحوير ، وربما لا يستمرون في التحريف والتضليل ، ويعرف كل باحث منصف وعاقل محايد أن كتب العرب والمسلمين وتراثهم هي المصادر الأصلية لعلوم الغرب وحضارتهم ، وأن كان المسلمون عنها غافلين ، وقد انقضى العهد الذي كان فيه المثقفون – المستغربون – من المسلمين يعتمدون في مصادر معرفتهم للإسلام وعلومه وتاريخ حضارتهم وأئمتهم على مؤلفات معاجم المستشرقين ، وقد حان الأوان لأن يرفعوا عار الاتكال في فهم دينهم وتراثهم على ما يكتب الغرباء عن اللغة العربية التي هي وعاء العلوم الإسلامية ، وعلى ما ينشره الأعداء المتربصون للإسلام وأهله عبر العصور .