الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأربعاء 2-يوليو-1986 م
لقد أصبحت اليوم كلمة “السلام” بمثابة سلعة تباع وتشتري ، ويتنازع عليها كل دولة أو جماعة أو فئة ، ويعتمد عليها كل كتلة من الكتل الكبرى السياسية والاقتصادية والعسكرية في الدعاية ضد الأخرى واجتذاب الأنظار إلى جانبها ، والدعاية ذد الأخرى ، على أساس أنها هي وحدها حامية السلام ، والعالمة لإقرار الأمن الدولي ، وأما الأخرى فهي الدعاية إلى الحروب ، والقائمو بالإرهاب ، والمعتدية على السلام العالمي ، إلى آخر قائمة المصطلحات التي تؤدي إلى نتيجة مرموقة لرفاهية الإنسانية واستتباب الأمن والسلام الحقيقيين في العالم ، وأ، الوضع الأمني العالمي يتدهور يوما فيوما وتزداد خطورة نشوب حروب مدمرة في كل البقاع ، ونرى من خلال النظر بعين التحقيق والإنصاف أن كلا من الكتل المتنازعة يريد بلفظ “السلام” حماية مصالحها الخاصة ومطامعها الذاتية والدفاع عن الاحتفاظ بسلطتها وكيانها ومستقبلها ، وبصرف النظر عن آية اعتبارات أخرى تخص الآخرين ، أن هذا المفهوم لن يؤدي إلى تحقيق سلام عالمي حقيقي .
السلام في نظر الإسلام
إن السلام العالمي في نظر الإسلام عبارة عن نظرية وبعبارة أخرى احترام النوع الإنساني معاديا كان أو مناصرا ضعيفا أو قويا ، غنيا أو فقيرا ، أبيض أو أسود ، وأن هذه النظرية الإنسانية المتكاملة تنظر إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان على أن بينهما صلة ونسبا ، مهما اختلفت الأجناس والألوان والأصقاع ، وأن هذا النسب هو “الإنسانية الفطرية” التي تقوم على أساس الحقيقة الكونية التي أعلنها على الملأ خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : “كلكم آدم وآدم من تراب” ، وقد قال رب البشر في محكم كتابه الذي أنزل دستورا للبشرية جمعاء : “الحمد لله رب العالمين” ، وأن هذه النظرية الإنسانية المتاكاملة التي يصورها الإسلام ، العداء الذي يقوم حينا فآخر بين شخص وشخص ، أو بين مجموع وأخرى أو بين دولة ودولة ، لا تعتبره عداء طبيعيا وإنما هو في الحقيقة عداء طارئ بسبب اختلافات تحدث في وجهات النظر تجاه بعض المسائل والمصالح الخاصة تحت ضغوط الأهواء الشخصية والنزعات المادية .
الوطنية والقومية
إن الوطن في نظرة الإسلام هو الأسرة الصغيرة للنوع الإنساني والعالم بصفة عامة إنما هو الأسرة الكبيرة للبشرية جمعاء ، ولا ترضى هذه النظرية بأن يكون في الأسرة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، فقير إلا ويأخذ الفرد الغني بيده إلى شاطئ الأمان ، أو جاهل إلا ويأخذ بيده الفرد العلم ليوصل إلى ميدان العلم والثقافة ، أو ضعيف إلا ويأخذ الفرد القوي بيد المعونة والمساعدة ، فيكون المجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد مجتمعا حريا بالتقدم والرخاء وينتفي منذ الجمود والبطالة والخمول والفاقة ، وتستمر فيه حركة التقدم والنمو ، في جميع مرافق الحياة في سلام وأمان ووفاق .
وتتلاشى في ظل هذه النظرية الإنسانية المتكاملة الأحقاد والأضغان والإرهاب والإفساد ، وأن هذه العلل والأمراض تنشأ من ضيق الأفق وهوى النفس والمآرب الذاتية والمطامع الشخصية على حساب الآخرين .
المثل الأعلى للسلام العالمي
إذا فكر الإنسان المعاصر في أحوال العالم الماضي ، وتطوراته وأحواله وملابسات أمنه وسلامه والظروف الراهنة في أرجائه من كروب ومحن ، وحروب محلية وأهلية ، ومحدودة وموسعة وتلقائية ومدبرة من الجهات المغرضة ، يرى أن العالم اليوم ينتظر بفارغ الصبر وينظر شاخصا بصره إلى منفذ ينقذه من هذه الحيرة وهذا التوتر الرهيب ، ويرى أيضا أن وضعا مثل هذا قد شهده قبيل بعثة أفضل الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في القرن السادس للميلاد ، من الحروب الأهلية والمحلية والدولية ، ومن الخرافات والخزعبلات والأضغان والأحقاد والقبلية والعنصرية والجاهلية والهمجية ، وفي ذلك الحين بعث رب العالمين لإنقاذ البشرية من تلك الكارثة ونشر الأمن والسلام في ربوع العالم الإنساني خاتم رسله معلنا له : “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” . وأنزل دستورا سماويا وشريعة إلهية من جميع عناصر الخلود ومع سائر الأدوية لشتى أنواع العلل والأمراض الظاهرة منها والباطنة والمزمنة منها والمؤقتة فخلص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بفضل ذلك الدستور الخالد الجامع الشامل ، ذلك العالم الحائر المضطرب من مخالب الحروب والكروب ، والدمار والاستعباد ، وأخرجه من ظلمات الجهل والأوهام ، وأنشأه بفضل ذلك الدستور السماوي الإلهي ، خلال بضع سنين ، من الأمة المتخاذلة المتخالفة المتحاربة لأتفه الأسباب أمة متحضرة مثقفة متحابة متحدة ، وصارت تلك الأمة الإسلامية التي تكونت وترعرعت تحت رعاية وتربية الرسول الأكرم وخلفائه الراشدين أسوة خالدة في مبادئ الأخوة الإنسانية والمثل الأعلى في تحقيق السلام العالمي والأمن الدولي والتضامن الوطني والقومي والقبلي على أساس الأخوة المتكاملة والاحترام الكامل لمشاعر وأحاسيس الجميع على قدم المساواة .