قضية هامة لمستقبل الأمة
ضرورة منهج ثقافي إسلامي متكاملة
الشرق – الخميس 12-نوفمبر-1987م
إن الثقافة التي يعنيها الإسلام ويهدف إلى تحقيقها إنما ثقافة شاملة متكاملة متكاملة لجميع مواقف الحياة البشرية ، فكما أن الإسلام نظام يتناول جميع مجالات حياة الفرد المسلم تتناول الثقافة الإسلامية جميع مواقف حياته ، أي ثقافة الروح وثقافة النفس وثقافة الذهن وثقافة السلوك والمعاملات ، فيجب أن يكون المسلم مثقفا في نفسه ومثقفا في سلوكه ومثقفا في معاملاته مع الناس ، ومثقفا في كلامه في مشيه ومجلسه ومثقفا في مأكله ومشربه وملبسه ومثقفا في متجره ومصنعه ومكتبه ومثقفا في بيته وبين أهله وعشيرته .
وينبغي أن نذكر أيضا أن الإنسان يتكون من عنصرين : روح ومادة ، فلا يكتمل نموه إلا بنمو العنصرين معا ، وكذلك لا تتحقق تربيته كما حقها إلا بتربية العنصرين بحيث لا حياة حقيقية ومتكاملة للكائن الإنسان إذا فقد أحد هذين العنصرين أو ضعف ومن هذا المنطلق يجب أن نفهم المنهج الثقافي في الإسلام .
مفهومات مغلوطة
ومن المفهومات المغلوطة في مجال الثقافة والتثقيف ، الخلط الذي حدث في استعمال الغاية والوسائل ، وكذلك الالتباس الشائع في مفهوم وسائل الثقافة وغايتها فعلى سبيل المثال فإذا العلوم والفنون في الحقيقة والواقع والفهم الصحيح إنما هي وسائل للتثقيف وليست هي الثقافة بنفسها فالذي حصل على شهادة علمية أو تخرج في معهد أو جامعة فيطلق عليه لقب عالم بالضرورة ولكن لا ينبغي أن يكون مثقفا بنفس حكم الضرورة إلا إذا اتخذ علمه وسيلة لتثقيف نفسه به وأصبح مثقفا بسلوكه العلمي ففي هذه الحالة فهو عالم مثقف ، وكذلك إذا كان شخص قد ثقف نفسه في سلوكه ومعاملاته بالمعنى الصحيح للثقافة فيستحق للقب المثقف حقيقة وواقعا وإن لم يكن يحمل شهادة علمية أو لقبا أكاديميا .
الإسلام والثقافة
لا يخفى على من له إلمام بحقيقة الإسلام ومبادئه وتعاليمه أن الإسلام دين الثقافة السليمة القويمة ولو أنه يحارب بعض الأفكار والاتجاهات المنحرفة التي دخلت في مجالات الثقافة مع أنعا تمت بالثقافة الإنسانية بصلة ، وقد شاع في بعض الجهات المغرضة ، وخاصة في الآونة الأخيرة تصور خاطئ أو مشوه عن العلاقة بين الإسلام والثقافة ، وذلك نتيجة لمفاهيم خاطئة لحقيقة الإسلام أو حقيقة الثقافة أو بتأثير بعض الشبهات التي أثارها – ولا يزال يثيرها – بعض الدوائر أو الشخصيات بسوء النية ، وبقصد الإفساد والتضليل ، من أجل تحقيق مآرب شخصية أو مطامع سياسية أو مذهبية ، بأن الإسلام ليست له صلة بالثقافة فإنما هو مجرد عبارة عن مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر الدينية أو أنه لا يشجع الثقافة العامة إلا في أضيق الحدود ، وفي الحقيقة والواقع ، أنه بالرغم من عدم شيوع مصطلح “الثقافة” أو تداوله على ألسنة علماء المسلمين وأدبائهم في العصور الأولى للإسلام فيمكن لنا القول بأن الإسلام بالمعنى الأعم ، والأشمل ، إنما هو الثقافة الإنسانية الفطرية ، وأن الثقافة الإنسانية الحقة هي الإسلام .
وينبغي أن يكون معلوما كذلك أن آفاقية الثقافة الإسلامية وإنسانيتها وفطريتها ، قد جعلتها صالحة لجميع الشعوب وفي جميع الأزمنة والأمكنة إن صح فهمها وحسن استخدامها ، وإن إلقاء نظرة على مفهوم الثقافة في الإسلام يهدينا إلى هذه الحقيقة الجليلة ، وأما الإسلام فهو كما هو معلوم بالضرورة نظام إلهي فطري عام وشامل ، جاء لهداية البشر إلى حياة مستقيمة ، تحقق له الفوز والسعادة في الدارين وهذا النظام هو الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وبعبارة أخرى إن الإسلام يهدف إلى إرشاد الإنسان إلى طريق الفطرة السليمة ، لئلا ينحرف عنها لأن أي انحراف عن الفطرة القويمة يؤديه إلى الهاوية ، وقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون وكل ما فيه ووضع لكل شيء الميزان والاعتدال فأي انحراف عن ذلك الميزان يؤديه إلى الانهيار ومن أظهر الأمثلة على ذلك الشمس والقمر ودوران الأرض وغيره من ظواهر الكون وآياته فإن انحراف الشمس أو القمر عن مداره المحدد مثقال ذرة او اختلال ميزان جاذبية الأرض مثقال ذرة يؤدي حتما إلى انهيار نظام الكون كله ، وينبغي لنا أن ننظر إلى الفطرة الإنسانية بنفس المعيار ، فإن نجاة الإنسان وسعادته في اتباع القوانين الفطرية التي وضعها له خالق البشر والقوى ، ولوجود احتمال انحراف الإنسان عن فطرته السليمة لأسباب خارجية أو داخلية وضع له رب العالمين ، نظاما هاديا له إلى طريق الفطرة الصحيحة ويعيده إليها كلما يتعرض للانحراف عنه .
وإذا ألقينا نظرة عامة على المصادر الأصيلة للإسلام من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح نجد قبسات مضيئة في كيفية ومسلك تثقيف كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية الفطرية فيشير القرآن الكريم بمحكم آياته البينات إلى تثقيف النفس من أدرانها وتهذيبها من عيوبها ومساوئها فيقول :”ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” (الشمس : 6) فالفلاح في تزكية النفس وتهذيبها والخيبة في تدسيتها وفي مقدمة تثقيف النفس تهذيبها من أدران الحسد والكبر والنفاق .
تثقيف متكامل
وبعد أن أرشد القرآن الإنسانية كلها إلى ضرورة تثقيف النفس من كل أدرانها وعيوبها يرشدها إلى تثقيف الجوارح كلها وفي مقدمتها اللسان من أمراضه الخبيثة من السخرية والاستهزاء والغيبة والنميمة والشتيمة وغيرها فيقول :”يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم” (الحجرات : 12) وبعد تثقيف اللسان ينتقل كتاب الله تعالى إلى تثقيف الإنسان في مشيه فيقول :”وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا” (الفرقان : 63) ، ويقول أيضا :”ولا تمش في الأرض مرحا” (الإسراء : 37) .
ويرشد القرآن إلى تثقيف البصر فيقول :”قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم…..”(النور : 30) أي عن النظر إلى المحرمات وإلى الأماكن وإلى الأشياء التي لا تعنيه .
وأما الثقافة التي يعنيها الإسلام فهي ثقافة إيجابية لا سلبية بمعنى أن الغاية من الثقافة الإسلامية هي تنمية المواهب وليست تبديدها واغتنام الأوقات الثمينة ولا تضييعها ، وإزالة الإرهاق وليس زيادة الإرهاق بالأرق والسهرة المرهقة ، وتنشيط الأذهان وليس تضعيفها أو تنشيط الأذهان وليس تضعيفها أو تشتيتها ، وينبغي أن نشير إلى نقطتين هامتين في هذا الصدد فالأولى : إن الانبهار بالثقافة الغربية نتيجة لضواغطها العديدة وأنماطها ووسائلها القوية المتحكمة في مجالات الحياة العصرية قد أحدث تدهورا وتداخلا في التصور الثقافي أو النشاط الثقافي في المجتمع الإسلامي وخاصة الشرقي منه ، والثانية تسرب مركب النقص أو عقدة التخلف إلى نفوس المسلمين في العصور الأخيرة بسبب انبهار الطبقة المثقفة في المجتمع الإسلامي بمظاهر الثقافة الغربية ومحاكاتها وتقليدها ، وذلك أيضا بضغوط وسائل الأعلام الغربية المتحكمة في مصائر العالم الإسلامي والمسيطرة على المرافق التكنولوجية والعلمية والفنية في أنحاء العالم الشرقي بصفة عامة .
ضرورة البديل
بينما يرى الشباب في العالم العربي والإسلامي القيم الإسلامية ومعالم تراث الحضارة الإسلامية ، والثقافة الإسلامية مدونة في الكتب والآداب وظاهرة على روائع الفنون من العمائر والقلاع والمساجد وغيرها وتجذبهم إلى رغبة التكيف بها والتعايش معها ، لا يرون لها أرضا واضحة وثابتة للوقوف عليها كما لا يجدون برامج أو مناهج متميزة ومحددة المعالم للثقافة الإسلامية في غاياتها ووسائلها وطرق تطبيقها في الحياة اليومية بصورة عملية فعالة ومؤثرة فيعيش هؤلاء الشباب في حالة تطلع وتوثب إلى منهج ثقافي إسلامي متكامل ومتجاوب مع جميع متطلبات الحياة .