الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 31-مارس-1987 م
هذا العنوان استطراد لمقال ذكرى “يوم الأرض” المنشورة في هذا المقام فإذا تتبع أي باحث تاريخي أو دارس علمي ، بوعي سليم وقلب فهيم ، وعقل نزيه وفكر محايد ، يرى بكل وضوح وجلاء ، أن بني إسرائيل منذ أن طغوا وبغوا بتعصب واستكبار ، وتعنت واستهتار ، لأنعم الله عليهم وإيذاء وإضرار لأنبياء الله الذين جاءوا لإنقاذهم من المذلة وإعطائهم المكانة بعد أن كانوا مستذلين ومستصغرين تحت الفراعنة والرومان والقياسرة واليونان ، أن لعنة الله وأنبيائه نزلت عليهم وصاروا أذلة صاغرين أمام الناس نتيجة لمكرهم وكيدهم وطغيانهم حتى ولو كانوا في قمة الغنى والعلم والدهاء والعقل والذكاء ، وما زالت هي حالهم حتى يومنا هذا ، على الرغم من نفوذهم وحظهم الدنيوي والإعلامي والسياسي في العالم الحاضر ، ولكن نظرة الاحتقار تلحقهم ومخافة الاندثار تقلقهم ، فلا تضمن لهم القرار في مكان ، حيلهم ومكائدهم ومصائدهم للعقول بكل الوسائل لأن الفرار تاريخهم .
تعاني مدينة الفدس الآن أزمة حادة في تاريخها المديد إذ يحاول اليهود الصهاينة اغتصابها من العرب ظلما وغدرا لتكون عاصمة لدولتهم العنصرية الباطلة وليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ تقاسي فيها هذه المدينة المتاعب من نار تعصب اليهود وعدوانهم ، فأنها كانت في كل الفترات الزمنية التي حاول فيها اليهود المتعصبون الاستيلاء على هذه المدينة واللعب بها والتصرف فيها حسب هواهم ، مصرعا عاما لهم منذ أن نزلت فيهم لعنة الله أنبيائه ، كان تنبئ عيسى ابن مريم يتحقق فيهم في كل مرة ، إذ قال في شأن أورشليم”القدس” وأهلها اليهود المتعنتين “ستلقي هذه الأرض بؤثا وعنتا وسيحل الغضب على أهلها وسيسقطون صرعى على حد السيف ويسيرون عبيدا إلى كل مصر وستطأ أورشليم الأقدام وهذه هي الأرض الدامية التي شهدت لأجل اليهود أروع الحوادث وأكثرها قسوة ودما ، وفي كل مرة أثبتت أنها هي مصرعهم ولا قوا فيها نتائج تعصبهم وقسوة قلوبهم ، وفيما صورة مدهشة لما حدث لليهود في مدينة القدس مرة ولا بد أن يعيد التاريخ نفسه .
ففي النصف الأخير للقرن الأول الميلادي كان الرومان يحكمون بلاد الشام وكانت منها فلسطين فثار إذ ذاك اليهود المتعصبون من سكان فلسطين ضد الرومان وأخرجوا من أورشليم الحامية الرومانية المكونة من الفيلق العاشر للرومان غدرا ومكرا فرأى الأمبراطور الروماني أن يلقن هؤلاء المتعصبين الذين لا يقبلون نظاما ولا عدلا ، درسا برد إليهم صوابهم ويكون عبرة للآخرين فجهز جيشا تحت امرة القائد (فسباشيان) ومعه ابنه “طيطس” فانحدر على فلسطين كالسيل العرم يقود جيشا من أقوى الجيوش التي أعدها الرومان ، وجدير بالذكر أن اول معركة خاضها مع اليهود كانت عند “الجليل” التي تطل على بحيرة ساحرة المنظر ، فأحال الجيش الروماني مياهها الصافية حمراء من كثرة ما سكب فيها من ماء اليهود وأرسلوهم عبيدا إلى قصر قيصر .
وبعد سنين من هذا المصرع الأليم عاد اليهود المتعصبون إلى غيهم مرة أخرى إذ نشبت حرب أهلية في المدينة فاحتل المتطرفون ورجال العصبات منهم بعض أحياء مدينة القدس واخذوا يشنون هجمات وحشية على إحيائها الأخرى حتى جرت الدماء في الطرقات ، وكان “طيطس” يرابط حينذاك أمام أسوار المدينة ، فكدسوا الجثث في داخل المنازل وتسلل كثيرون منهم خلال الأسوار في ظلام الليل ، فكان الرومان يصلبونهم حتى وصل معدل اليهود الذين صلبوا يوما خمسمائة شخص ، فبدت الأخشاب والتلال موحشة من منظر جثث اليهود المصلوبة .
وقد بلغ عنا اليهود إلى حد أنهم كانوا يخرجون متسللين على أيديهم وأرجلهم كالأشباح الذابلة وأنهم ابتلعوا ذهبهم في بطونهم لئلا ينتفع بها الآخرون في حالة فشلهم في الحصار ، فكان المشهد مروعا إذ بدأ الجنود الرومان يتصيدون اليهود في الظلام ويشقون بطونهم ابتغاء الذهب الذي ابتلعوه وهكذا بلغت اللعنة ذروتها حيث لم تسلم أحشاؤهم أيضا من أيدي الجنود الرومان ، وجاء في كتاب للمؤرخ اليهودي “جوزيفوس” ان الجوع بلغ بالسكان ذروته فصار الأب يختطف طعام أطفاله وسارت امرأة تملك مليونا من الدينارات تلتقط حبات القمح المتتناثرة في الطرق وتخاصم الأصدقاء متقاتلين على فتات العيش ، وأخذ الناس يجمعون أي شيئ يجدونه فيمضغونه إسكاتا لصراخ إمعائهم وإضاف المؤرخ اليهودي جوزيفوس قائلا : أن الحرب قد أزالت كل معالم الجمال في المدينة وإحالتها صعيدا مشوها .
ولما استفحل الأمر ونفدت جميع الحيل لك ير الرومان بدأ من أن يستأنف الهجوم العنيف المركز على اليهود المتمردين فشق الجيش يخيلهم ومشاتهم الطرق فاحتلوا الأماكن الني كان اليهود يتحصنون فيها ، واتخذ اليهود قلعة (انطونيا) الواقعة بجانب القاعة التي سلم فيها “بيلاطس” المسيح إلى قضائه ليحاكم ، ودار القتال حولها وتساقط اليهود قتلى ، ولكنهم لم يتعظوا إيمانا منهم بأن “يهوا” أي الهمم سيأتي لنجدتهم زعما بأنهم “شعب الله المختار” وإنقاذا لمعبده من الدمار ، ولكن تقدم الرومان في أرجاء المدينة المقدسة فوق جثث اليهود حتى دخلوا قدس الأقداس في المعبد اليهودي الرئيسي وقذف أحد جنود الرمان غضبا وسخطا ، مشعلا من مشاعل المعبد وقذف به إحدى النوفذ المذهبة في ذلك المعبد فسرت النيران تندلع بقوة ، وهكذا دفعت كراهيتهم لليهود إلى نهب وسلب الأموال والكنوز التي خباها اليهود في بيوتهم ومعابدهم .
وبعد الواقعة المفجعة في المدينة المقدسة وانتشار الدمار والنار في الأحياء اليهودية كلها حاول القائد الروماني لأرجاع المتعصبين من اليهود واعدا بمنحهم الحياة ولكن اليهود هم اليهود ورأوا هذه المحاولة فرصة سانحة للمساومة فساوموا حتى ضاق الصدر ونفد الصبر فأصدر القائد الروماني أمره للجنود بالقتل الجماعي لليهود وحرق بيوتهم ونهب أموالهم وإحلال دمائهم وأعراضهم ، فقذفوا المنجنيق بحجارة ولهبه وتطايرت السهام تصيب الصدور وسددت الرماح إلى النحور وأمعن الجنود في القتل حتى ضاقت به نفوسهم ، وجمعوا من الغنائم حتى شبعت بها أطماعهم وامتلأت أرض القدس بجثث القتلى من اليهود المتعصبين ، وهذا نتيجة ما ركب في رؤوسهم من عناد وكبر وظلم وعدوان ، وإن في التاريخ لعظات وعبر ! ! ! .