الخليج اليوم – قضايا انسانية -16/9/1985
إن من أهم العلوم التي عني بها المسلمون في صدر الإسلام وأحرزوا فيها تقدما ملحوظا هو علم “الجغرافيا” .
ومن الأسباب الرئيسية التي ساعدت على تقدم علم الجغرافيا تقدما لم نسبق له مثيل في التاريخ .
أولا : اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية بهذه السرعة المذهلة .
وثانيا : اتساع نطاق تجارة العرب والمسلمين وانتشارها في العالم شرقا وغربا ، ومن المعروف أن العرب كانوا يأخذون زمام التجارة البحرية مذ القدم . وكان التجار العرب يقطعون الأرض طولا وعرضا ويخوضون عباب البحر ، قياما بدور الوساطة للتجارة بين البحر المتوسط وبلاد الهند .
ثالثا : فرض استقبال الكعبة على المسلمين في صلواتهم من جميع أطراف الدنيا وقصدهم مكة المكرمة لأداء فريضة الحج . وكل ذلك ، مع حب العلم والمعرفة أدى إلى تقدم المعارف الجغرافية بين العرب والمسلمين فأصبحت القاهرة وبغداد والبصرة ودمشق وقيروان وغيرها من مدن العالم الإسلامي الرئيسية مراكز الاختراعات والاكتشافات والابتكارات في العلم الجغرافي ونبغ فيه جغرافيو الإسلام الذين سهلوا طرقه ووسعوا مداركه وعظموا قدره .
العصور الذهبية لتقدم المعارف الجغرافية .
وكان القرنان التاسع والعاشر للميلاد ، من الفترة الهامة التي وضع فيها الجغرافيون العرب المسلمون كتبا جليلة في هذا الفن ودونوا فيها ما عرفوا من البلاد وما سمعوه من أخبارها أخذا ونقلا . وزادوا على طريقة المتقدمين ، من اليونان والرومان وغيرهم تعريفا في أقسام المعمورة ، وقد صححوا كثيرا من الأفكار التي كانت سائدة من قبل على أساس غير سليم ، كما تفننوا في ذكر البلاد والممالك وعينوا مسافة الطرق والمسالك .
ومن طليعة هؤلاء الجهابذة من الجغرافيين العرب والمسلمين : أبو إسحق الاصطخري ، وابن حوقل ، والقزويني ، وياقوت الحموي ، وشمس الدين المقدسي ، وأبو الفدا ، وأبو الحسن على الهروي ، والشريف الإدريسي ، وأبو العباس أحمد السرخسي ، وعلي بن حسين المسعودي ، وأبو القاسم الشيرازي والشيخ تقي الدين المقريزي والحسن بن أحمد الهمازاني ، وأبو الأشعث الكندي ، وأبو سعيد السيرافي ، وأبو الحسن العمراني ، وعلي بن محمد الحوارزمي ، وأبو الريحان البيروني .
كتاب : “تقويم البلدان” لأبي الفدا .
ويقول أبو الفدا في مقدمة كتابه الرائع “تقويم البلدان” : – “جمعنا في هذا المختصر ما تفرق في الكتب المذكورة من غير أن ندعى الإحاطة بجميع البلاد أو بغالبها ، فإن جميع الكتب المؤلفة بهذا الفن لا تشتمل إلا على القليل إلى الغاية ، فإن إقليم الصين مع عظمته وكثرة مدنه له يقع إلينا من أخباره إلا الشاذ النادر ، وحلو مع ذلك غير محقق وكذلك إقليم الهند فإن الذي وصل إلينا من أخباره مضطرب وهو غير محقق أيضا . . الخ” .
وتبين من هذا البيان مدى اهتمام علماء الجغرافيا المسلمين بجمع الحقائق الجغرافية على أساس علمي واستقرائي بدون الالتجاء إلى تخمين وظن ، فقد حققوا المواقع في القادات ، وتوغلوا في البلاد وبيئنوا الطرق والمسالك والمسافات على بينة ، ولاستيفاء الكلام عن مدى ازدهار علم الجغرافيا في ظل الحضارة الإسلامية ، علينا أن نقوم بنظرة سريعة على بعض الكتب القيمة التي وضعها الجغرافيون المسلمون والابتكارات والاكتشافات التي قاموا بها في هذا الفن :
كتاب “أخبار الزمان ومن أباده الحدثان” للمسعودي.
وأما كتاب المسعودي المذكور فهو موسوعة كبيرة في بيان هيئة الأرض ومدنها وجبالها وأنهارها ومعادنها وأصل النسل وانقسام الإقليم وتباين الناس , ولد المسعودي في بغداد في أواخر القرن التاسع للميلاد ، وقد أقبل على طلب العلم والتجول منذ نشأته وجاب معظم أنحاء الممالكالإسلامية وغيرها من البلدان المحيطة بها ، وكان مولعا بعلوم الحكمة والتاريخ والجغرافيا وفي سنة 915 رحل إلى الهند وتفحص بعض أفكارها ثم عبر البحر الجنوبي وجاب سواحل أفريقيا الشرقية ومنها اجتاز البحر إلى جزيرة العرب ، ومنذ عام 940 م انقطع عن الرحلات ولزم بيته في تصنيف وتدوين ما أحرزه من المعلومات والتجارب عن البلاد المختلفة ، ومواقعها ومدنها وأخبارها .
وأما كتاب المسعودي : “مروج الذهب” الموضوع في سنة 235 هـ – 946م فهو من أجل المصنفات العربية في علم الجغرافيا وأخبار الأمم ، وقد طبع “مروج الذهب” في مصر ، ثم طبع مترجما إلى الفرنسية في ثمانية مجلدات في باريس سنة 1873م .
وقال ابن خلدون في مقدمة كتاب : “الصبر وديوان المبتدأ والخبر” ما يأتي عن كتاب “مروج الذهب” : “شرح المسعودي فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده غربا وشرقا , ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدور وفرق شعوب العرب واللعجم ، فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه ويعولون عليه في تحقيق الكبير من العلوم وأخبار الأمم .
ويتضح من هذا مكانة هذا الكتاب في التاريخ والجغرافيا كما أنها واضحة من ترجمته إلى الفرنسية وطبعها في باريس .