المدينة – 2/ 1403
لقد امتازت الدعوة المحمدية وبتعبير أدق ، الرسالة التي أرسل بها الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعموميتها إلى كافة الثقلين ، وشمولها لجميع مرافق الحياة البشرية ، وقد خص الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وحده بأن يكون رسولا إلى كافة الناس ، وجعله خاتم النبيين ، ورحمة للعالمين ، وقد صرح القرآن الحكيم بهذا فقال تعالى مخاتبا له “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” (الأعراف : 158) ، وقال له رب العزة أيضا “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (سبأ : 28) .
فلا بد أن تكون الدعوة المحمدية غير محلية ولا بيئية ولا موجهة لأمة دون أخرى ، وتحت عنوان عموم الدعوة المحمدية يقول فضيلة الدكتور محمد فتح الله بدران رحمة الله في كتابه : الفلسفة الحديثة في الميزان …(ولقد كانت كل الدعوات السابقة عليه بيئية ، محلية ، محدودة ، مصدقة ، ومكملة ، وممهدة ، أما منذ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الأبد ، فهي في عمومها أوسع من أن تدرك أو تحدد لأنها تشمل الناس كافة وجميعا) (ص 340 (الطبعة الأولى ، القاهرة سنة 1968 م) .
وقد مهد فضيلته لهذه القضية بهذه المقدمة :
“وعموم الدعوة المحمدية يعم الدنيا من آدمها إلى قيامها ، أما منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكما أشرنا من قبل ، وبخاصة في قوله سبحانه :”شرع لكم من الدين ما وصى به نوح والذي أوحينا إليك” (الشورى : 13) ، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولكل واحد من أتباعه في سورة آل عمران :”قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (84) .
وإذا نظرنا إلى طبيعة الدعوة المحمدية وخصائصها نرى أنها مرت بمراحل كثيرة وكلها بإذنه تعالى وأمره .
وبمقتضى حكمته في خلقه ، فكانت الهجرة من مكة إلى المدينة مرحلة هامة من مراحل الدعوة الإسلامية ، ونقطة تحول خطير في انتشارها في أرجاء الأرض ، وهي التي مهدت السبيل لوصولها إلى مختلف القبائل العربية ، ودعت الأمم والشعوب لاستطلاع حقيقة هذه الدعوة وصاحبها وجذبت الوفود من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وفتحت الأبواب إلى فتح مكة ثم إلى فتوحات أخرى عديدة .
بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة ، من أول نبوته سرا ، وبعد أن مضى في هذه المرحلة من الدعوة السرية أو المحمدية مدة ثلاث سنين ، أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنا .
فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام وإلى مواسم الأخرى في عكاظ ومجنة ، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة ، واستمر هذا الدور المكي العلني من الدعوة الإسلامية لمدة عشر سنين أخرى ، فتكونت خلال هاتين المرحلتين النواة الأولى للمجتمع الإسلامي من الذين آمنوا بصدق دعوته ونبوته صلى الله عليه وسلم وقد انتشر نبأ هذه الدعوة إلى قبائل العرب المختلفة في الجزيرة ، وتسرب إلى الأمم والشعوب في خارجها .
ونجم عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أن تكونت في المدينة نواة الدولة الإسلامية الأولى ، وتقع المدينة المنورة شمالي مكة ، على مسيرة إحدى عشر يوما منها ، وكانت في تلك الأيام مدينة مكشوفة معرضة للغزو الخارجي ، حتى أقام النبي صلى الله عليه وسلم ، بحفر الخندق المشهور لرد عدوان قريش ، ويقال إن أول بني يثرب أحد رؤساء العمالقة ، وظلت تسمى باسمه حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان العمالقة يسكنون في يثرب وفي ضواحيها في العصور الغابرة ، ثم توالت هجرة اليهود إلى بلاد العرب فرارا من وجه مضطهديهم أو الآخذين بالثأر منهم من البابليين ، واليونان ، والرومان ، فاستطنوا شمال الحجاز .. وكانت أشهر القبائل اليهودية النازلة ببلاد العرب ، بني نضير في خيبر ، وبني قريظة في فدك ، وبني قينقاع بالقرب من المدينة ذاتها ، وكان اليهود يقيمون في قرى محصنة فاستطاعوا أن يسيطروا على جيرانهم من القبائل العربية إلى أن جاءت الأوس والخزرج – وهما قبيلتان من نسل وقحطان – فأقامتا في يثرب ودانتا لليهود في أول الأمر ثم صارت لهما الولاية عليهم “.
وكانت حال “يثرب” السياسية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، حالة حرب عوان بين الأوس والخزرج ، ومؤامرات من اليهود لإشعال نار الفتنة بين هاتين القبيلتين العربيتين ، ومحاولتهم السيطرة على القبائل العربية المجاورة ، فكان قدومه صلى الله عليه وسلم فاتحة عصر جديد في تاريخ جزيرة العرب لأنه آخى بين الأوس والخزرج حتى نسوا ما تأصل في نفوسهم من عداوة وضغائن ، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وانضموا تحت لواء هجروا وطنهم ولحقوا به في المدينة ، وبين هذين الفريقين من المؤمنين في السراء والضراء توثيقا لعرى المحبة والأخوة الإسلامية بينهم .
وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضع أول حجر في بناء الدولة الإسلامية ، واتخذ مسجده مقره العام ليقيم فيه المسلمون شعائر دينهم ، وليعقدوا فيه اجتماعاتهم للنظر في شؤونهم العامة ، ووضع الرسول للجماعة الإسلامية نظاما تسير عليه في زمن المسلم ن والاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الخارجي ، ثم أخذ يعد العدة لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية ، ومحط أنظار العرب وشعوب العالم .
وكان بالمدينة في الفترة الأولى لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ثلاث طوائف مختلفة ، الطائفة الأولى : المهاجرون والأنصار وهم نواة الإسلام ، وكانوا يحبون رسول الله حبا لا حد له ، إذ أن روح الأخوة الإسلامية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حالت دون ظهور أي أثر من آثار الجاهلية ، وبدأ الأنصار والمهاجرون يتنافسون في بذل أكبر تضحية في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والطائفة الثانية : كانت تتألف من المنافقين ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان عبد الله يطمع أن يكون ملكا على المدينة أحبط أعماله في استغلال من يريد إذ تولى زمام السلطة ، فاضطر هو وأنصاره في غمرة الحماسة التي استقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يتظاهروا بالإسلام ، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لينقلبوا على المسلمين ، وأخذوا يدبرون المؤامرات ضدهم في الخفاء ، ولذلك كانوا مصدر خطر كبير على الدولة الإسلامية الناشئة ، وهذه الطائفة هي التي ذكرها القرآن الكريم في سورة المنافقين : فقال فيهم :” إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهر إن المنافقين لكاذبون ، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون” (المنافقون : 1-2) .
وأما الحزب الثالث في المدينة : فكانت تتألف من اليهود الذين أثارت ضغائنهم وأحقادهم هجرة الرسول إليها ، ورسوخ عدوته فيها ، وذيوع أمرها في أنحاء جزيرة العرب ، فتحزبوا ضد المسلمين وأصبحوا أشد الأحزاب خطرا على الدعوة الإسلامية ، مع أنهم كانوا يستفتحون على المشركين إذا نشبت الحرب على الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه ، ولكن أعماهم حب الرياسة ، فاستعظموا الأمر ، مما زاد خطرهم على الدعوة الإسلامية في المدينة أن كانت لهم بقريش علاقات تجارية وثيقة ، كما كانت توجد منهم شعب في مختلف القبائل المعادية للإسلام ، وكذلك كان يساعدهم على المخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة دعوته جماعة المنافقين من عرب المدينة .
وقد بلغت المؤامرات الثلاثية – بين اليهود والمنافقين والمشركين ضد الدولة الإسلامية الناشئة ذروتها ، وهذا الوضع استلزم اليقظة التامة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يعاملهم بغاية الصبر والحلم رجاء أن يستميلهم إلى الحق والسلم ، وكان يواصل دعوته فيهم بالحكمة والمعظة الحسنة ، وتظاهر اليهود في أول الأمر بالاشتراك مع أهل المدينة في الترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتزموا خطة المسالمة فترة من الزمان ، وذلك على أمل أن هذا الداعية المتواضع الذي نزل على الأوس والخزرج الذين كانوا أعداءهم بالأمس ومواليهم اليوم ، قد يساعدهم على قهر العرب واستعادة مملكة يهوذا ! .
ولم يكد يمضي زمن قصير حتى عاودهم داء التمرد القديم الذي دفعهم إلى قتل أنبيائهم ، وتجلت أعراض هذا الداء فيما جاهروا به من الفتنة ، وما أسروا من الغدر والخيانة ، فجاهروا المسلمين بالعداوة وساعدوا قريشا علنا على أن ما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق وكرم المعاملة ما كان ليرضى اليهود ، ولم تجد الحيل في إطفاء نار الحقد التي كانت تتأجج في صدورهم ، وغاظهم أنهم عجزوا عن اتخاذه آلة في أيديهم لتهويد العرب .
وإن الدين الذي جاء به أقرب إلى الفطرة من قصصهم التلمودية ، فلم يلبثوا أن نقضوا العهد والميثاق ، وانضموا إلى أعداء الإسلام ، ولما سألتهم قريش “أديننا خير أم دين محمد؟ “قالوا “بل دينكم خير من دينه” ، مع علمهم بكل ما ينطوي عليه دين قريش من شرك وخرافات ومساوئ .
وإذا أردنا أن نعرف مدى أثر هجرة الرسول إلى المدينة على تطور الدعوة الإسلامية وتدعيم دعائمها وتوسيع نطاق نفوذها في أنحاء جزيرة العرب وخارجها ، وجب علينا أن نتتبع مجرى الحوادث الهامة التي تبعت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومنها حدوث الظروف التي أفضت إلى عقد المسلمين معاهدات واتفاقيات مع اليهود وقبائل العرب في المدينة ، وفيما جاورها من المدن ، وكذلك دخول المسلمين في حروب دفاعية مع أعدائهم وخاصة ما نتج عنها من انتصارهم في بدر ، وكان للنتائج التي ترتبت على هذه المعاهدات ، والانتصارات أثر عميق في نفوس المسلمين ، ووقع كبير في أسماع العرب أجمعهم ، من ذلك أو الوفود قد قدمت إلى المدينة لمقابلة بني الإسلام صلى الله عليه وسلم ومبايعته بعد انتشار خير دعوته في أرجاء لجزيرة ، ومنها تكوين حلف منظم يجمع شمل العناصر المتنافرة المتضاربة في المدينة وضواحيها ، فوضع الرسول وثيقته التاريخية يبين فيها ما للمسلمين وما عليهم فيها بينهم ، وما للمسلمين واليهود وما عليهم ، وتظهر لنا هذه الوثيقة عظمته الحقيقية ومواهبه السياسية ، وهدفه المنشود في إنشاء مجتمع سليم ينتظم الجنس البشري كله وكذلك سدد بهذه الوثيقة ضربة قاضية إلى الفوضى التي كانت سائدة بين قبائل العرب ، وهذا نص تلك الوثيقة التاريخية التي أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم الأعلى بينهم بحكم نبوته ، وبحكم هذا الميثاق الذي انعقد بينه وبين قومه .
“بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ” ، ثم يقول بعد أن عرض لتنظيم دفع الديات بين القبائل المختلفة وتقرير بعض القواعد الحكيمة بصدد ما يجب على المسلمين بعضهم نحو بعض .
إن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، إنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا منتاصرين عليهم ، وإن يهود بني عوف ، وبني النجار ، وبني الحارث ، وبني جشم ، وبني ثعلبة ، وبني الأوس وغيرهم ممن يقيم في يثرب أمة واحدة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ “يهلك” إلا بنفسه وأهل بيته .
وإن بينهم النصر على دهم يثرب ، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وإن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم وكذلك المؤمنون وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى وسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم .
وبعد أن نص الكتاب على بعض أمور خاصة بالإدارة الداخلية للدولة ختمت هذه الوثيقة العجيبة بما يلي :
“وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استنجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله” (ابن هشام ، طبع مصر 1346 هـ ) .
وهكذا أن صوت الدعوة الإسلامية الذي بدأ في مكة ، وجلجل في المدينة ، بدأ يتردد في القارات الكبرى في العالم ، ولولا الهجرة لما كانت الفتوحات التي غيرت مجرى التاريخ وعدلت وجهة الدنيا ..
وهذه الهجرة هي التي مكنت العرب من أن يفكوا حصارهم وينتشروا في بقاع العالم يحملون أمانة الله ويبلغون رسالته ، فما أجل أمرهذه الهجرة ، وأعظم أثرها في تاريخ الدعوة الإسلامية بل وتاريخ البشرية كلها .