المدينة – ربيع الآخر 1400/10
مهما بحث الباحثون في تاريخ نهضة الشرق الإسلامي وتشعبت بهم الطرق في تعيين أسباب يقظته وعوامل نهضته نجدهم يرجعون في ذلك أخيرا إلى شخصية فذة في مواهبها أو جدية في هممها وعزائمها هي شخصية جمال الدين الأفغاني فإذا كان لغيره من رجال الإصلاح الذين عاشوا جوالى زمنه بعض المشاركة في هذا السعي وفي تلتلة شعور الشرق والشرقيين فإن جمال الدين وحده موقفا وموفقا لم يقفه غيره في أولئك الرجال ، موقفا ملأه الأقدام والثبات ، والإلحاد والتجرد ، والمثابرة ، ومواجهة المخاطر للنفس من النفي والسجن وغيرهما .
قام في منتصف القرن الماضي رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي متقاربون في الزمن حذروا قومهم ، وأنذروا ملوكهم وأمراءهم بدنو الخطر ووجوب التعجب بالإصلاح قبل وقوع المأساة ، ولكن موقف كل واحد من هؤلاء في البيئة والإيقاظ والجهر بالإصلاح كان محدودا بحدود بلاده وغالبا ماكان يتخطى صوته الإصلاحي أذان أهلها أما جمال الدين فقد كان موقفه محدودا بحدود العالم الإسلامي وصوته الجهير كان يدوي في سمع كل من عاش في زمنه وخاصة من أهل ملته .
فأي قطر من أقطار الإسلامية عربية كانت أو عجمية لم يرتفع له فيه صوت أولم يكن مريدون يحملون رسالته ، شجعهم في وجوب النهوض وتحطيم القيود وإزالة العقبات أمام الناهضين .
وكان هدف جهاد الأفغاني وأتباعه المصلحين أن يكون للعالم الإسلامي دولة قوية آخذة بأسباب المدنية والعمران الموصلة إلى العزة والاستقلال مع مراعاة تعاليم الإسلام الأساسية وكان فاتحة أعمال الأفغاني” إصدار مجلة (العروة الوثقى) مع مساعدة الشيخ محمد عبده في باريس وكانت تتفنن في أساليب التأليب على الإنجليز المستعمرين وتصغير شأنهم والتحذير من الوقوع في حبائلهم ولم يصدر إلا ثمانية عشر عددا صادرته الحكومة .
ولكن شموع هذه الإعداد تحترق إلى الآن في أنحاء العالم بل هي تنير الطريق لكل مصلح ومجاهد كما هي نبراس الحائرين وأسوة المجاهدين وقدوة المصلحين .
هذه طرف من أسلوب العروة الوثقى في نشر أهدافها ضرب الأمثال ورواية القصص . ” ذكروا في قصص الأولين أن هيكلا عظيما كان خارج مدينة اصطخر، وربما آوى إليه بعض سراة الليل إذا اشتدت بهم وحشة الظلام وما آوى إليه أحد إلا غالبته المنية فيأتي ظلاب أثره لقص خبره فيدخلون الهيكل في ضوء النهار فيجدونه ميتا ثم لا يهتدون لسبب وموته لسلامة بدنه من كل ما يعهد سببا للموت ، واشتهر أمر الهيكل بين السابلة والقطان وأخذ كل قاصد حذره من المبيت به حتى ضاقت الدنيا برجل فاختار الموت على الحياة وصعب عليه الانتحار بيده فذهب إلى الهيكل لعله يصادف ميتة فإذا بالقرب منه رجال نصحوه وحذروه عاقبة الهلاك فلم يصغ إليهم وقال إنما أتيت لتلك العاقبة وانفلت من نصحائهم إلى حيث يظن هلاكه فلما توسط الهيكل فاجأت أصوات مزعجة هائلة كأن جمعا عظيما يخاطبه ها نحن وصلنا لتمزيق بدنك وسحق عظامك فصاح البائس : ألا فاقدموا فقد سئمت الحياة فلم يتم كلامه إلا وقد حدثت قرقعة شديدة وانحل الطلسم وانشق الجدار وتناثرت منه الدراهم والدنانير وانفتحت أبواب الكنوز فاطمأن الخائف ونام حتى أصبح ولما أضحى النهار وجاء الواقفون على خبره ليحملوا جنازته وجدوه فرحا مستبشرا يسألهم بعض الأوعية ليحمل ما وجده من الذهب والفضة فاستخبروه قصته فبعد البيان علموا أن هلاك من هلك إنما كان بالفزع من تلك المزعجات التي لا حقيقة لها” .
وأردف الأفغاني يكتب “وبريطانيا العظمى هيكل عظيم يأوي إليه المغرورون إذا أوحشت نفوسهم ظلمات البسالة فتدركهم الميتة بمزعجات الأوهام وكم هلك بين جدرانه من مريرة لهم ولا ثبات لجأشهم وأخشى أن يسوق اليأس إلى ذلك الهيكل قوى المريرة ماقت الحياة فما تكون إلا هنيهة يصعد فيها صوت اليأس فينقص الجدار وينحل هذا الطلسم الأعظم .
ويسرد الأفغاني وأسطورة أخرى لتمثيل الاستعمار المستبد على الضعفاء :
“قالوا إن زنجيا أسود هائل المنظر غليظ الشفتين مقلوب المشغرين جاحظ العينين أحمر الحدقتين بشع الوجه أفطس الأنف منكر الصورة كان يحمل ولدا في ليلة مظلمة يسير به في زقاق من أزقة بغداد والولد – كلما نظر إليه – يفزع ويبكي وينتحب ويصيح ويعول وكلما اشتد به الفزع ربته الزنجي ومسح ظهره وقال له لا تخف يا ولدي فإني معك وأنيسك وحافظك من كل شر وبعد تكرار هذه الملاطفات من الزنجي للصبي قال الصبي قال الصبي : يا سيدي إنما خوفي وفزعي منك لا من وحشة الظلام ، وهكذا شان حكومة انجلترا مع الأمم المستضعفة والمستعمرة كلما اشتدت الخطوب وعظمت المصائب وزاد الخلل في البلاد مسحت حكومة بريطانيا على ظهر الأمم بيدها الناعمة (وإنما هي نعومة الثعبان) أقبلت على الأهالي تمنيهم بوعودها المرونقة وتقول لهم لا تحزنوا فإني معكم ، وجميع الأمم والزعماء يجأرون وينادون إنما خوفنا وجزعنا منك وراحتنا واطمئنانا يتنحيك عنا وتركنا وشأننا” .
هذا نموذج من جهد جمال الدين الأفغاني ونشاطه السياسي وهذه هي أفانينه الخلابة التي كان يوزعها على قرائها في العروة الوثقى وكثيرا ما يردد ، أن الإسلام بطبيعته يعلم بـأن بلاد الإسلام مهما اتسعت رقعتها وترامت أطرافها تكون كل قرية أو بقعة منها وطنا للمسلم الذي ينزلها فأهلها إخوته وحكومتها حكومته ويعنيها من أمرها ما يعني سكانها أنفسهم فقد كان أفغانيا في أفغانستان وإيرانيا في إيران وهنديا في الهند ومصريا في مصر وحجازيا في الحجاز وتركيا في تركيا وكان السيد الأفغاني إذا سئل عن وطنه أجاب ليس لي وطن على أنه لا وطن اليوم للمسلمين – يشير إلى أنهم غرباء في أوطانهم مادام الأجانب مسيطرون عليهم – ولا جرم إن الأفغاني كان في حياته وجولاته في بلاد الإسلام رمزا قائما بنفسه إلى وحدة الدول الإسلامية وإن سكانها شعب واحد يعيشون في وطن واحد .
ولذا كان أكبر غرض يسعى إليه هو إقامة دولة إسلامية قوية ينضوي إلى رايتها جميع الشعوب الإسلامية وهذا كان همه الأكبر وهدفه الأعظم .
وجرى مناظرة يوما بين بعض الساسة الإنجليز وجمال الدين فنددوا بالشرق والشرقيين وقال جمال الدين ، كفى للشرق فخرا أنه نشأ في الشرق رجل تعبده الأمم الأورروبية ، وقد لخصت جريدة العروة الوثقى في أول عدد لها أهداف حركة السيد جمال الدين الأفغاني في النقاط الآتية .
الخطوط الأساسية لدعوة الأفغاني
1 – بيان الواجبات على الشرقين : التي كان التفريط فيها موجبا للسقوط والضعف ، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات .
2 – دعوتهم إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة والنظم الإسلامية الشاملة للنواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
3 – إشراب النفوس عقيدة الأمل في النجاح وإزالة ما حل بها من اليأس .
4 – الدفاع عما يرمي به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من التهم وإبطال زعم الزاعمين إن المسلمين لا يتقدمون في العلم والحضارة ما داموا متمسكين بأصول دينهم .
5 – تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية : وتثبيت الألفة بين أفرادها .
6 – كان المثل الأعلى له حالة من حيث العقيدة والصفات الخلقية والنظام السياسي .
غير أنهم كانوا موحدين حقا ، معتزين بدينهم لا تفرقهم المذاهب والملل مترابطين برباط الأخوة ، فيهم خلق الآباء والشمم ، يبذلون أعز شيء في سبيل عقيدتهم وعزتهم ينشرون بينهم العلم ما استطاعوا ن ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر دائما .
وكان السيد جمال الدين الأفغاني يجاهد لتحرير البلاد الإسلامية من السيطرة الأجنبية وإنقاذها من الاستغلال الأجنبي وإلى إصلاح شؤون الداخلية بالإدارة الحرة المنظمة ، كما كان يرمي إلى جامعة تنتظم الدول الإسلامية ، لتتمكن بهذا الاتحاد من منع التدخل الأجنبي في شؤونها .
وكانت وفاته سنة 1314 هـ – 1897م ، في الاستانة بتركيا في عهد السلطان عبد الحميد ، بعد حياة حافلة من الجهاد في سبيل تحريك العالم الإسلامي نحو الاتحاد والإصلاح ونشر العلم .