الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 30-أكتوبر-1986 م
(دراسة وتحقيق)
من الحقائق الثابتة في صفحات تاريخ القوات العسكرية البرية والبحرية ، لمختلف الأمم والشعوب في شتى أنحاء العالم ، في سائر الأزمنة والأمكنة ، أن السيطرة البحرية في البحر الأبيض المتوسط كانت في أيدي المسلمين بعد انهزام أقوى أساطيل زمانهم وهو الأسطول البيزنطي في معركة ذات الصوارى سنة 34 هجرية ، وكانت تلك المواجهة نهاية للسيطرة البحرية الغربية في المنطقة ، وبداية للاستراتيجية البحرية الإسلامية فيها ، ثم جاء بعدهم خلف أضاعوها واتبعوا الشهوات وترفوا وضعفوا فأصبحوا القصعة التي تتداعى عليها الأمم ! .
القرآن يدفع الاستفادات البرية والبحرية
وإذا ألقينا نظرة عامة إلى الآيات العديدة التي وردت في القرآن الكريم تدفع الإنسان إلى الاستفادة من نعم الله تعالى في آفاق الأرض وأعماق البحر وترشده إلى الاعتناء بآلاء البر والبحر والاقتحام في مجالات الاستعانة بها لإسعاد الحياة البشرية ولإقامة حضارة إنسانية ذات رخاء ورفاهية بفضل السيطرة على مكونات البر والبحر ، ومنها الآيات التالية :-
1 – “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها . .” (البقرة : 164) .
2 – “وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون” (الأنعام : 97) .
3 – “وهو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان ، وطنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين” (يونس : 22) .
4 – “وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار” (إبراهيم : 32) .
5 – “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا” (الإسراء : 70) .
6 – “ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام” (الشورى : 32) . وإن هذه الآيات بمثابة الدوافع النفسية والمعنوية والحوافر الاقتصادية والاجتماعية والأساليب الدفاعية والحضارية للأمة الإسلامية فما كان أمام المسلمين إلا أن يقتحموا مجالات البحار والأنهار مثل اقتحامهم مجلات الأقطار والأمصار في البر لنشر الدعوة الإسلامية وحماية الفتوحات وصد الهجمات المضادة عن طريق البر والبحر ، وكان العرب قبل الإسلام يقضون معظم حياتهم في صحراء الجزيرة العربية وكانت تجارتهم ورحلاتهم بطريق البر بين الجزيرة العربية والشام ومصر وما جورها من البلاد المتاخمة ، وفي نفس الوقت كان الروم والافرنج كانت لهم مهارة وخبرة ودراية في الشؤون البحرية وصارت في أيديهم السيطرة البحرية في البحار والأنهار المحيطة بجزيرة العرب .
وبهذه الأسباب وغيرها كانت الفتوحات الإسلامية خلال السنوات الأولى للهجرة النبوية منحصرة في ميادين البر دون البحر ، سواء في الشام أو العراق أو مصر .
بداية بناء القوة البحرية للمسلمين
وبدافع من الإرشادات القرآنية لاقتحام مجالات البر والبحر والاستفادة من نعمائهما والسيطرة على مقاليدهما ، والاستعانة بطاقاتهما ومدخراتهما في بناء حضارة إنسانية وارفة الظلال تعيش تحتها البشرية كلها في أمن وسلام ووئام ، وهكذا غرس الإسلام الوعي البحري في نفوس المسلمين واستوعبوا المعارف والعلوم للازمة في مجالات الرحلات البحرية وبناء قوة عسكرية بحرية مثل القوات العسكرية البرية التي كان يملكها المسلمون حينئذ ، وبدأ المسلمون أولا صناعة السفن في في مصانع الشام ومصر ، ولهذين البلدين تاريخ عريق في ميدان البحر سواء في ا لتجارة أو الحرب واستفاد المسلمون الذين تسابقوا إلى الفتوحات الإسلامية واستناروا بالإرشادات القرآنية من الخبرات البحرية للأمم الأخرى .
ويقول الإمام البلاذري في كتابه الشهير “فتوح البلدان” وكانت صناعة السفن بمصر فقط ، فأمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بجمع الصناع والنجارين فجمعهم ورتبهم في السواحل ، ويقول المؤرخ الشهير “أرسيبالو لويس” في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط ” ، كما أن العرب بفضل استيلائهم على دور الصناعة البيزنطينية في الاسكندرية وسوريا سليمة ، استطاعوا أن يكونوا لديهم سفنا حربية إما جاهزة أو من السهل بناؤها وكانت تحت أيديهم فضلا عن ذلك السفن التجارية التي يملكها السوريون والمصريون وهي مما يمكن استخدامه في أغراض الحرب مع ما يكفيها من ملاحي تلك الثغور الخبراء بشؤون الملاحة” .
ويقول المؤرخ الكبير ابن خلدون في معرض الكلام عن استفادة المسلمين من الخبرات البحرية في مصر والشام في بناء الأسطول الإسلامي وتطوير الاستراتيجية البحرية الإسلامية : فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم البحر تابعة لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته ، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما ، وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته ، استحدثوا بصراء بها (خبراء) فشرهوا إلى الجهاد فيه (البحر) وأنشأوا السفن فيه و”الشواني” (السفن الحربية الكبيرة التي يتكون منها الأطول الإسلامي) ، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأركبوا فيها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحار من أمم الكفر ، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشام ، وأفريقية والمغرب والأندلس (مقدمة ابن خلدون ص 221) .
وجاء في كتاب : تاريخ سورية ولبنان ، للكاتب المعروف فيليب حتى : “وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قد ظفر في عكا بأحواض بيزنطية لبناء السفن وافية التجهيز ، فعمد إلى تشغيلها بحيث غدت الأولى من نوعها بعد دار الصناعة في الاسكندرية ، وكانت إحراج آئنذا غضة ، فكانت تمد هذه الصناعة بالخشب اللازم ، وقد نقل الأمويون هذه الأحواض إلى مدينة صور ، لقد أدرك المسلمون بعد عصر النبوة ان عدم وجود قوة بحرية لهم يضعف موقفهم وسيطرتهم على السواحل الإسلامية أمام قوة البحرية البيزنطينية ويعوق حركتهم لنشر الدعوة ، وفهموا مغزى أمر القرآن إذ قال : “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” (الأنفال : 60) .
وأدركوا أيضا أن مقتضى هذا الأمر هو تطوير بناء قوتهم وأسلحتهم وأساليب ردعهم الأعداء بطريقة تناسب الظروف والأحوال والتطورات العصرية من كل زمان ومكان .
أول أسطول بحري إسلامي
رأينا من الاستعراض السريع السابق أن المسلمين قد أدركوا من تطور أحداث الفتوحات والدروس المستفادة من المعارك البحرية مع الأعداء خلال السنوات الأولى لتلك الفتوحات ضرورة وضع استراتيجية عسكرية بحرية فبينما كانت مدن الشام الداخلية تخضع لحكم الإسلام دون مقاومة ، كانت المدن الساحلية تناهض وتصمد طويلا بفضل الإمداد المستمر عن طريق البحر وبتحريض من البحرية البيزنطينية حتى تمكنت مدن منها أن تنشق عن الحكم الإسلامي بمعونة الاسطول البيزنطي ، ومنها مدن صيدا وجبيل وعرقة في الشام ، والاسكندرية في مصر كما كانت جزر قبرص وصقلية وسردينية عرضة لحملات بحرية متواصلة بين الطرفين ، ومن ناحية أخرى فقد امتدت شواطئ الدولة الإسلامية من طرطوس شمالا إلى برقة جنوبا وهذه الشواطئ الطويلة كانت تواجه تهديدا من البيزنطيين وأساطيلهم ، فكان من الضروري جدا وعاجلا إنشاء أسطول بحري إسلامي قصري لحماية تلك الشواطئ والدفاع عنها :
وبدأ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وإلى الشام في خلافة عمر رضي الله عنه في تقوية حصون الساحل الشامي ومدنه ، وإنشاء الرباطات البحرية فيها وتدعيمها ثم جعلها قواعد هجوم وإغارة على الغزاة بحرا ، بعد أن كانت أماكن حصينة للدفاع والاحتماء ، فلما تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة بدأ معاوية في السياسة البحرية في البحر المتوسط فشجع الناس على سكنى السواحل لتنمية ملكه حب البحر وركوبه في نفوسهم وجدير بالذكر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه وافق على منح كل من يقيم في السواحل قطعة أرض ليستغلها ويظفر بخيرها فعمرت السواحل بذلك ولم يعد المسلمون يخشون خطر البيزنطيين أو عدوانهم ، ويقول الإمام البلاذري في كتابه فتوح البلدان أيضا عن قوة الأسطول الإسلامي :”فتح عبادة بن الصامت رضي الله عنه والمسلمون معه أنطرطوس ، وكان حصنا ، ثم جلا عنه أهله فبنى معاوية أنطرطوس ومصرها وأقطع بها القطائع وكذلك فعل بمرقية وبليناس” ، ويقول بعض المؤرخين الباحثين إن المسلمين قد أكملوا المراحل الأولى لإنشاء الأسطول الإسلامي الأول ، من الغنائم التي حصلوا عليها من السفن البيزنطينية وأساطيلها ، كما أنهم استعانوا بغيرهم في حاجاتهم وصناعاتهم البحرية واستوعبوا المعارف والفنون والمهارات الجديدة واستخدموها في بناء أساطيلهم البحرية .
المواجهة بين أقوى الأسطولين في ذلك العصر
وقد بدأت عمليات الإغارة البحرية بين المسلمين والبيزنطينيين سنة 28 هجرية بعزو قبرص وكانت قبرص وكريت وصقلية ومالطة وسردينية وغيرها من الجزر التابعة للامبراطورية البيزنطينية تشكل تهديدا مباشر للشام ومصر وسائر الشواطئ الإسلامية الممتدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط .
واستمرت ممارسة العمليات البحرية بين الأساطيل البيزنطينية غزو المسلمين جزيرة قبرص عام 28 هجري ، وكان عام 34 هجري نقطة تحول في تاريخ الأسطول البحري للمسلمين وحدا فاصلا للمعارك البحرية بينهم وبين البيزنطينيين حيث انهزم الأسطول البيزنطي الذي كان أقوى أساطيل ذلك العصر ، وذلك في “معركة ذات الصوارى” المعروفة وانتهت بذلك السيطرة البحرية البيزنطينية وبدأ عصر القوة في تاريخ البحرية الإسلامية .
وكانت معركة ذات الصوارى التي انهزم فيها الأسطول البيزنطي أمام الأسطول الإسلامي معجزة للقوة البحرية الإسلامية بكل المعايير والمقايس وقد غيرت مجرى تاريخ البحر الأبيض المتوسط لأن هذه النتيجة كانت انتهاء لعصر السيادة للبيزنطيين في البحر المتوسط وابتداء عصر السيادة الإسلامية في عالم هذا البحر عسكريا وسياسيا اقتصاديا ويقول المؤرخ المذكور أرشييلو لويس في كتابه السابق عن “معركة ذات الصوارى” :”ويبدو أن انتصار المسلمين جاء نتيجة لخطط غير عادية ، إذ ربطوا سفنهم بعضها إلى بعض بسلاسل ثقيلة ، فاستحال على أعدائهم اختراق صفوفهم واستخدموا في تلك المعركة خطا طيف طويلة يصيبون بها صوارى وأشرعة سفن الأعداء ، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للبيزنطينيين” ، وكفى لأصحاب الأساطيل الإسلامية في تلك المعركة الفاصلة فخرا وعزا هذا البيان الموجز بقلم أرشييلو لويس أليس ذلك شهادة شاهد من أهله ؟ .
الدروس المستفادة لأولي الألباب
إن في هذه الحقائق التاريخية التي حققها وقدمها أجداد مسلمي العصر الحاضر ، ولو انتسابا أو احتسابا ، للتاريخ دروسا تفتح العيون وتشق القلوب وتذرف الدموع ، وما كانوا يقفون مكتوفي الأيدي أمام التحديات ، ويدعون الفرص لأعدائهم لكي يتفوقوا عليهم ، وأثبتوا أن التبعية أو البهلوة لا تدفع الخطر ولا تحقق النصر .