الشرق الثلاثاء 29-سبتمبر-1987م
لا يخفى على من له إلمام بمجريات التيار التاريخي البشري وأدرانه بمنعطفات التطورات العصرية في العالم ، أن قيمة بعض التحدليلات العلمية وجدة بعض الاستنتاجات الفكرية وأثر الشخصيات الإنسانية الرائدة لا ينضب نبعه ولا يبلي نفعه بمرور السنين والدهور وعبر تقلبات العصور ، بل وتحتاج الإنسانية عاما بعد عام وجيلا بعد جيل إلى استذكار نتائجه واستعادة ميزاته حينا فآخر ، لئلا تنطمس آثاره في طيات أكوام الصحف أو المجلات التي كتبت عن ذلك الاستنتاج الفكري أو نشرت مقالات وتحليلات عنه في زمان أو مكان بعيد عن قراء العصر الحالي ، مع أن تأثير لا يزال قائما وقويا .
وهذا هو موقفنا مع الكتاب المذكور الذي أحدث ضجة كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وأنحاء كثيرة في العالم ، ولكن مع الأسف الشديد والحزن العميق ، أن مشاعر المفكرين والكتاب خاصة الدعاة والوعاظ وكذلك عامة القراء في العالم العربي الإسلامي ، لم تهتز لعظمة الاستنتاج الفكري الذي قام به هذا المؤلف الأمريكي المولد والجنسية لم تخفق لها قلوب الباحثين والدارسين من العرب والمسلمين ليشعروا القراء وعشاق المعرفة مدى فهم الغرب للإسلام والشخصيات الإسلامية عند البحث العلمي بأمانة ودراية وصدق نية ، وما هي العوامل التي تتدخل في صياغة أهمية رجال الإسلام في عصرنا الحاضر ، ومن ثم أرجو من القراء الأعزاء ، وبالأخص الطلاب والباحثين ، كل في دائرة تخصصه ومجال العمل الحركي في مضمار الحياة ، أن يعي جيدا أهمية هذا الكتاب والموضوع الذي عرض له ، والمعايير التي اتخذها المؤلف الغربي العالم لوضع محمد صلى الله عليه وسلم على رأس عظماء التاريخ من كل الاعتبارات ، ودفاعه وتبريره بكل حرارة وشجاعة لهذا الاختيار وهو مؤلف غربي مسيحي يكتب للغربيين جميعا بلغتهم وأسلوبهم .
التعريف بالكتاب
إن هذا الكتاب الذي نشره الدكتور مايكل هارت عام 1978 في الولايات المتحدة الأمريكية والذي أحدث ضجة هناك وما لبثت أن انتقلت تلك الضجة إلى أنحاء العالم الغربي المسيحي كله ، يتألف (طبعة الانجليزي) من حوالي 500 صفحة من الحجم المتوسط وفيه مقدمة ودراسة للمائة المختارين حسب الترتيب الذي ثم فيه الاختيار وتتضمن دراسة كل شخصية من المائة العظام نبذة عن حياته ، وخلفية عصره ثم عرضا لمنجزاته وأعماله ونظرياته وأفكاره التي قدمها للإنسانية ، وكذلك مدى التقدير الذي ناله من معاصريه وفي التاريخ ، ثم وضع بيانا للأسباب التي جعلت المؤلف يضع الشخصية المدروسة في ترتيبها المختار في هذا الكتاب ، وانصب اهتمامه – كما اعترف به – بالدرجة الأولى على مؤسسي الأديان والعلماء ، ثم الفاتحين ثم الأدباء والكتاب العالميين .
التعريف بالمؤلف
عرفنا أن الدكتور مايكل هارت هو الأمريكي الجنسية والمولد ، حصل على الشهادة العالمية في الرياضيات ثم في القانون ثم شهادة الماجستير في العلوم وشهادة الدكتوراه في الفلك ، وجدير بالذكر أن الدكتور مايكل هارت قد عمل في مركز أبحاث الفضاء في ميريلاند ، وفي المركز القومي لأبحاث طبقات الجو في أكبر مرصد للأفلاك في كالفورنيا ، كما أنه أحد العلماء المعتمدين في الفيزياء التطبيقية وعضو الجمعية الفلكرية وفروعها في علوم الكواكب في الولايات المتحدة الأمريكية .
ترجمة الكتاب العربية
قام الأستاذان الفاضلان خالد أسعد عيسى وأحمد غسان سبانو ، بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ونشرته دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق ، وجاء في مقدمة الناشر لترجمتة العربية في معرض الحديث عن دقة الترحمة لنصوصه الانجليزية “وقد تركنا كلمات المؤلف كما هي ليشعر القارئ وبدون تغيير أو تبديل مدى فهم الغرب للشخصيات الإسلامية وما هي العوامل التي تتدخل في صياغة أهمية رجال الإسلام في عصرنا الحاضر ولكننا قمنا بطباعة الكتاب للأمانة العلمية ودراسته دراسة المتأمل من المثقفين بوضع كل شخصية في حجمها الطبيعي ” (مقدمة الناشر ص 4) .
لماذا اختار محمدا صلى الله عليه وسلم في رأس القائمة ؟
يقول الدكتور مايكل هارت في مقدمة كتابه هذا “…فهذا الكتاب يهتم بشكل عظيم بأولئك الذين كان لهم تأثيرا على التاريخ ، وليس في مجرى العالم ، وهذه المجموعة من الأشخاص ، هم الذين شكلوا تاريخ حياتنا ..” وأضاف يقول :”وفي تقرير مكان الشخص كنت آخذ بعين الاعتبار أهمية الحركة التاريخية التي أسهم بها فالتطورات التاريخية ليست مسببة عن عمل شخص واحد فقط ، ولكن وبما أن هذا الكتاب مهتم بالأشخاص ونفوذهم الشخصي ، فلذلك فقد حاولت أن أقسم شرف عمل ما بالنسبة لمساهمة كل فرد فيه … وكمثل على هذا وضع محمد (صلى الله عليه وسلم) في مرتبة أعلى من يسوع المسيح ، وذلك لأن في اعتقادي أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) له تأثير شخصي على صياغة الدين الإسلامي أكثر مما كان ليسوع من تأثير على الدين المسيحي ، وهذا لا يدل على أني أظن أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) أعظم من يسوع بل كل سواء في العظمة” (مقدمة المؤلف – الطبعة العربية – ص 17) .
وبعد المقدمة يبدأ المؤلف عرض المائة الأوائل حسب ترتيبه ، بادئا برقم (1) محمد صلى الله عليه وسلم فيقول :”إن اختياري لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات ، إن هذا الاختيار ربما أدهش كثيرا من القراء إلى حد أنه قد يثير بعض التساؤلات ، ولكن في اعتقادي أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي ، لقد أسس محمد (صلى الله عليه وسلم) ونشر أعظم الأديان في العالم ، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام ، ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرنا على وفاته فإن تأثيره لا يزال قويا عارما ..” .
“إن أكثر الأشخاص الذين سياقبلهم القارئ في هذا الكتاب كنت لهم ميزات فائقة بكونهم قد ولدوا ودرجوا في مراكز حضارية وترعرعوا في أحضان أمم ذات سمات ثقافية وسياسية واجتماعية بالغة الأهمية ، أما محمد (صلى الله عليه وسلم ) فقد ولد في عام 570م في مدينة مكة جنوبي شبه الجزيرة العربية التي كانت في ذلك الوقت منطقة نائية عن الحضارة وبعيدة عن المراكز الحيوية ، سواء كانت تجارية أو علمية في العالم ، ولما كان قد ذاق مرارة اليتم ، وربى في محيط متواضع وعرف عنه أنه كان أميا ، ولقد كان ينادي بوجود إله واحد قاهر قادر يسيطر على الكون كله وعندما بلغ الأربعين جاءه الوحي الذي أخبره أن الله قد اختاره لنشر الدين القويم …” .
من الطبيعي أن يبدو غريبا وضع محمد (صلى الله عليه وسلم) في مرتبة أعلى من يسوع المسيح ولكن هناك سببين رئيسيين لذلك القرار ، أولهما : أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) لعب دورا أكثر أهمية في تطوير الإسلام من الدور الذي لعبه المسيح في تطوير المسيحية مع أن المسيح كان مسؤولا عن المبادئ الأدبية والأخلاقية للديانة المسيحية إلا أن القسيس بولس كان المطور الرئيسي للاهوت المسيحي وكان الهادي الرئيسي المعتقدات المسيحية والمؤلف لجزء كبير من العهد الجديد ، وثانيهما : أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان مسؤولا عن العقيدة الإسلامية ومبادئها الرئيسية وبالإضافة إلى ذلك فقد لعب دورا قياديا في تأسيس جميع القواعد الدينية في الإسلام … وفوق ذلك فإن محمدا (صلى الله عليه وسلم) يختلف عن المسيح بأنه كان زعيما دنيويا فضلا عن أنه زعيم ديني ، وإذا أخذت بعين الاعتبار القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية ، فإن محمدا (صلى الله عليه وسلم) يصيح أعظم قائد سياسي على مدى الأجيال ..”
واختتم المؤلف سرد المعايير والأسباب التي دعته إلى وضع محمد (صلى الله عليه وسلم) في رأس قائمة عظماء البشرية قاطبة ، “وأن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معا مما يخول محمدا (صلى الله عليه وسلم) أن يعتبر أعظم شخصية مفردة ذات تأثير في تاريخ البشرية ” (الطبعة المذكورة – ص 25) .