الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 14-يوليو-1987 م
أشرنا في المقال السابق إلى خلفيات الأبواق الداعية إلى الحط من قيمة اللغة العربية ومكانتها العظيمة في تاريخ النهضة العلمية والحضارية للإنسانية كلها وإلى مخططات الأعداء المتربصين للأمة العربية الإسلامية لانتزاع عروة اللغة العربية الوثقى من أيديها لتفتيت شملها وتفريق صفوفها ، وكان لزاما على المسلمين قاطبة أن ينتبهوا جيدا إلى هذه الحبائل الخطيرة المبثوثة تحت أقدامهم .
وفي الوقت نفسه ينبغي لهم الإلمام التام والاقتناع الكامل بسائر جوانب ميزات وخصائص هذه اللغة المجيدة ومكانتها بين لغات العالم لكي يفهمها العرب والمسلمون أولا بأنفسهم ثم أن يعملوا بكل الطرق والوسائل الممكنة لأفهام الآخرين وإقناعهم بها ، على بينة ودراية ووضاحة تامة .
حقيقة اللغة
إن اللغة نعمة الله العظمى ، وميزة الإنسان الكبرى ، ولها قيمتها في جميع مجالات الحياة البشرية ، وهي الخاصية التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوان ، ولو أن البعض قد عدها وسيلة فإنها في الحقيقة غاية تدرس لذاتها وربطت بين والفكر والعمل ، ومن عناصرها : التفكير والصوت والتعبير عن الفكر الداخلي والعمل الخارجي .
وبفضل هذه النعمة قد أصبح الإنسان كائنا مثاليا على وجه الأرض .
فاللغة بمفهومها الحقيقي من خصائص الإنسان ولكنا نقرأ ونسمع عن لغات كثيرة لمخلوقات أخرى مثل :
لغات النمل والطيور والحيوان والأسماك وغيرها .
وجاء في القرآن الكريم إشارة لبعض هذه اللغات ، حيث حكى عن نملة سليمان عليه السلام :”قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهو لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها” وقوله تعالى عن الهدهد وسليمان عليه والسلام :”فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنيأ يقين” (النمل) .
وهذا يدل على أن مخلوقات الله الأخرى لغات تتخاطب بها ، ولكنها تختلف عن لغات البشر وأن لغة الإنسان مقرونة بالفكر في إصدار الأصوات وتلقيها ويحكمها العقل وينظم عملياتها ولا يجعلها أصواتا خالية من المعنى .
والنظام هو الذي يمنحها الثراء والفاعلية والتعبير عن الأهداف السياسية والذهنية المجردة ، ويتطور أمرها بتطور نضج الإنسان ونضج عقله وترقي تفكيره ، واللغة بهذا المعنى من خصائص الإنسان وحده دون سائر المخلوقات الأرضية الحية الأخرى .
وما أعظم منه من الله على الإنسان حيث يقول :”الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان” .
إن لغة البشر مقدرة على الإبداع والابتكار ، والمقاطع التي تنطقها هي تأثيرات صوتية تستقبلها الإذن لكنها مرتبطة بأعضاء النطق فلا تستطيع أن تعرف حركات الأعضاء النطقية إذا صرفنا النظر عن التأثير الصوتي .
والصوت – إذن – أداة للفكر : وأن للغة في كل لحظة نظاما ثابتا وحركة متطورة ، ولها في مجموعها أشكال كثيرة متضاربة لأنها في مجالاتها المتحدة : مادية وعضوية ونفسانية ، وكما أن اللغة – بصفتها المذكورة – من خصائص الإنسان فإنها غاية منشودة في حياته الفردية والاجتماعية .
مكانة اللغة العربية
إن اللغة العربية هي من أقدم اللغات وأغناها على الإطلاق ولأسرار وحكم يعلمها خالق البشر والقوى ، اختار هذه اللغة وعاء لكتابه الخالد ، كما أشار إليه قوله :”وإنه تنزيل من رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين” (الشعراء : 192 – 195) . وكانت اللغة العربية قد بلغت قبل البعثة المحمدية أوج كمالها في التعبير البليغ السامي عن جميع مقومات الحياة وأوج مجدها في الفصاحة ، والإنتاج الأدبي شعرا ونثرا ، وظهرت روائع إنتاجها في الأشعار والأمثال والقصص .
“مع نزول القرآن في هذه اللغة ارتفع شأنها وأصبحت اللغة السائدة في بلاد العرب والمسلمون ، وأن اللغة العربية فضلا كبيرا على نشر حضارة الفكر العربي الإسلامي وتقدم العلوم والفنون والآداب المختلفة ولأجل القرآن ظهرت علوم القرآن كلها كما ظهرت علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة التي كانت أساسا لتفسير نصوص القرآن وفهمها ، ومن أجله أيضا ظهرت علوم منهجية مثل علوم التاريخ والأخبار والأسانيد وغيرها ، كما تقدمت –تطبيقا لتعاليم القرآن- علوم كثيرة مثل الرحلات والجغرافيا والسير ، واستحدثت علوم الطب والكيمياء والاجتماع وعلوم أخرى تابعة لدراسة القرآن ، مثل التجويد والتلاوة إل جانب علوم عديدة إسلامية .
ويتضح من هذا كله مدى طاقة اللغة العربية لما تمتاز به “من قوة بيانها وأصالة ألفاظها وأصواتها وموسيقي كلماتها ووفرة معانيها ، ولما كانت العلوم الإسلامية كلها تقوم على المبادئ القرآنية والسنة النبوية فيجيب من مناهلها الفياضة الأصلية ألا وهي نصوص القرآن والحديث النبوي فلا يتحقق هذا الهدف المنشود إلا عن طريق اللغة العربية التي هي وعاءها الأصلي ، ولذا رجعنا إلى نصوص القرآن وجدنا أن اللغة العربية هي مركز الانطلاق إلى حظيرة القرآن إذ جاء فيه :”إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” (يوسف) ثم قال :”كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون” (فصلت : 3) وكذلك قوله :”أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” (محمد : 24) .
(يتبع)