صوت الشرق – ديسمبر 1963م
في هذه الكلمة الوجيزة لخص المهاتما غاندي سياسة الهند – قديما وحديثا – تجاه ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى التي تتدفق إلى أرض الهند من كل صوب ، لقد آمنت الهند منذ فجر تاريخها بأن العلاقات الثقافية والفنية هي التي تنمي الروابط بين الشعوب ، وهي التي تدعم أواصر المحبة بين الدول على وجه المعمورة .
إن كرم الهند وحسن ضيافتها قد لا يقلان عن كرم العرب المشهور وذلك فضلا عن أن الهند المشهور ، وذلك فضلا عن أن الهند كانت بلد التسامح والبساطة منذ القدم ، ويشهد التاريخ بأن كل من نزح إلى الهند – باحثا علميا ، أو سائحا متحولا ، أو تاجرا أو زائرا – وجدها قد أفسحت له صدرها لاستقباله والترحيب به ، ويسرت له جميع الوسائل الممكنة لأن يترعرع مع ثقافته وطقوسه في ربوعها وبعبارة أخرى مهدت له السبيل لكي يتثقف بثقافة الهند ، وكما تتثقف هي بثقافته ، ولعلنا لسنا بمبالغين إذا قلنا أن سكان الهند اليوم – كلهم أو جلهم – خليط متناسق من هؤلاء النازحين إليها من مختلف الشعوب والأجناس في شتى بقاع العالم .
اللغة العربية
وبعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي واتساع نطاق الفتح الإسلامي بوصول القائد العربي محمد بن القاسم إلى شمالي الهند الغربي نحو سنة 91 هجرية ، أصبحت الآداب العربية والثقافة العربية منتشرة في أنحاء الهند ، وبدأت اللغة الغربية تتأصل في ربوعها ، وبذل رجال العرب المتشبعون بدعوة الإسلام ، وكذلك الهنود الذين اعتنقوا الدسن الإسلامي ، أقصى جهودهم في سبيل نشر اللغة العربية وآدابها في أنحاء البلاد ، باعتبار كونها لغة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ، وهمزة الوصل بين الهند والعالم العربي .
والمؤلفون في العربية
وأنجبت الهند كتابا ومؤلفين من الهنود أضافوا مؤلفات عظيمة وأهدوا بحوثا لهم قيمة إلى المكتبة العربية في مختلف المواضيع من تفسير كتفاسير “تبصير الرحمن وتيسير المنان” و “فتح الخبير ” و “سواطع الإلهام” و “تفسير القرآن بكلام الرحمن” ومن حديث وفقه وغيرهما من العلوم الإسلامية .
وفي القرن السابع الهجري قدم إلى منطقة “ملابار” بجنوب الهند الشيخ زين الدين المعبري من جزيرة العرب واستقر فيها ، حيث بنى المساجد وأسس المدارس والمعاهد العربية العديدة ، التي قصد إليها الطلاب من مختلف أنحاء البلاد ، للتزود من تلك المناهل العلمية ، ونشأ في عائلة الشيخ عدد كبير من جهابذة العلماء ، فوضعوا كتبا في اللغة العربية ، ومعظمها يتناول الفقه والتصوف والوعظ والإرشاد والنحو الصرف والعلوم الأخرى للأدب العربي ، ومنها “فتح المعين لقرة العين” و “مرشد الطلاب” و”إرشاد الطالبين” و “منبر القلوب” وكتب أخرى عديدة في التاريخ وقواعد اللغة ولا يزال عشاق اللغة العربية وعلماؤها يتبارون في التأليف والتصنيف والترجمة ، في هذه اللغة التي أخذت جذورها تتوطد في كثير من البلاد الهندية .
الطابع العربي
ولم يدع الفن الإسلامي العربي فنا من الفنون الهندية إلا وله فيها تأثير وتشابه سواء في ذلك الزخرفة أو التطريز أو المعمر أو النحت و التصوير ، وإذا تتبعنا الآثار التاريخية الخالدة المنتشرة في أنحاء الهند ، نجد الفن الإسلامي والنقوش العربية إلى جانب الفن الهندي والنقوش الهندية ، مثل “القلعة الحمراء” و “المسجد الجامع ” بدلهي ، و “تاج محل” والمباني المغولية العظمى في “آجرا” ومئات المساجد والدور والأضرحة المنتشرة في الهند ، وتتجلى في كل منها معالم الفن العربي ، حتى ليخيل إلى الزائر عند أول وهلة أنه يتجول في أحد الأماكن التاريخية في بلد عربي .
والفن الإسلامي
وقد ساهم الفن الإسلامي مساهمة فعالة في تنمية الفن الهندي وأثر فيه تأثيرا كبيرا ، بفضل السلاطين المسلمين المولعين بالفنون الجميلة ، وفي مقدمتهم الامبراطور المغولي “شاهجهان” وجده العظيم “أكبر” وقد امتازت آثارهم لتاريخية بفن إسلامي بديع وطابع عربي رائع ، فالآيات القرآنية والنقوش العربية تزين واجهة كل مسجد أو قصر أو ضريح بناه هؤلاء الحكام ، وأما الموسيقي والرقص والتمثيل فسلم يكن يخلو شيء منها أيضا من آثار الفن الإسلامي في تلك العهود .
وتغلغلت العقلية العربية والإسلامية في تفكير كثير من الأدباء الهنود وأشعارهم وقصصهم بفضل الأدباء العرب الذين هاجروا إلى الهند واستوطنوا فيها ، وبفضل الأدباء الهنود المتبحرين في الأدب العربي وعلومه وفنونه ، وأمامنا الدليل على ذلك من الكتاب الهندي الشهير “كليلة ودمنة” الذي وضعه فيلسوف هندي كبير باللغة السنسكريتية بطريقة المحاورة على السنة الحيوانات ،وهذه كانت طريقة مألوفة ومعهودة عند العرب أيضا منذ أقدم العصور .
والأزياء العربية
كذلك نرى الأزياء المعتادة لدى العرب ، كالعمامة والجلباب والسروال والطيلسان وغيرها ، منتشرة بين الهنود بصرف النظر عن اختلاف الأديان والطبقات والطوائف كما نجد في المدن المشهورة في الهند آلافا من أبناء الجالية العربية يشتغلون بالتجارة وقد اتخذوا الهند وطنهم الثاني إذ وجدوا فيها أرضا خصبة لتنمية ثقافتهم والاحتفاظ بتراثهم ، وأكبر شاهد هناك بعض المدن مثل “كاليكوت” و”بومباي” بساحل الهند الغربي في شاطئ بحر العرب .
هذا إلى جانب العادات والطقوس العربية التي صارت الآن جزء لا يتجزأ من الثقافة الهندية المحلية ، مثلما نزاه في كثير من المناسبات كأفراح الزواج والأعياد القومية .
مراكز العلوم العربية
وفي الهند اليوم عدد كبير من المعاهد الإسلامية والمدارس العربية تقوم بتدريس اللغة العربية وآدابها ، ودور خاصة للنشر والطبع والتأليف باللغة العربية ، ويقوم بعضها بتوزيع الكتب والمجلات العربية التي تطبع في البلدان العربية في شتى أنحاء الهند ، وتوكيدا لتوثيق العلاقات الثقافية بين الهند والعالم العربي ، يصدر مجلس الهند للروابط الثقافية بدلهي مجلة كبرى باللغة العربية باسم “ثقافة الهند” ويقوم القسم العربي بإذاعات الهند بنشر مجلة شهرية بالعربية تضم إلى جانب تفاصيل البرامج العربية ، بعض الأحاديث والمقالات المخصصة للقارئ العربي ، وهكذا يتسع يوما فيوما نطاق الثقافة العربية هناك مما يبشر بالمستقبل المزدهر للغة وبحوثها وآدابها في ربوع الهند .