الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الخميس 4 سبتمبر1986 م
يرجع التاريخ المدون للصحافة الإسلامية في الهند إلى القرن الثامن عشر الميلادي ، وصدرت أولى الصحف الإسلامية باللغة الأوردية من كلكتا باسم “أورد وأخبار” (الجريدة الأوردية) في سنة 1810م وتولى رئاسة تحريرها المولوي “إكرام علي” وتلتها الجريدة الأوردية التي أصدرها الزعيم الوطني المعروف “راجا رام موهان” باسم “مرآة الأخبار” وفي عام 1888م صدر أول كتاب يبحث عن تاريخ الصحافة الهندية للمؤرخ الصحفي الهندي المشهور السيد “محمد أشرف التقوي الملقب “بأختر الدولة” وصدر هذا الكتاب باللغة الأوردية ، ويعرف “بأختر شاهنشاهي” أي ديوان أختر ، وورد فيه ذكر أكثر من 1000 صحيفة هندية من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية في الأوردية والفارسية اللغة الانجليزية .
لعبت الصاحفة الهندية منذ فجر تاريخها دورا هاما في الميادين الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلاد ، ويقال أن صحافة الهند عملت عمل المجاهدين في سبيل الله من أجل حرية البلاد والنهضة القومية وبعد الاستقلال حلت الصحافة في الهند مكانة مرموقة في شؤون البلاد ، وليس من المبالغة في شيء أن نقول أن الصحافة الهندية الإسلامية التي شادها المصلحون والوطنيون في مختلف العصور في شتى اللغات ، قد ساهمت مساهمة فعالة في بناء الهند ونهضتها وإصلاحها وتوطيد علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية .
وفي هذه الآونة التي دخلت فيها الصحافة في الهند والعالم العربي دورا نشيطا في تاريخها المديد ، واهتمامها بنشر الإشعاع الفكري والثقافي بين الأمم والشعوب ودورها الكبير في سبيل نشر دعوة الحق والعدل بين الناس ، دعنا نقوم الآن بجولة سريعة حول الصحافة الإسلامية وتطوراتها في الهند ودورها في تاريخ الإسلام والمسلمين فيها .
دخلت الصحافة الأوردية في دور تقدمي منذ أن أسس الأستاذ “رياض خير آبادي” ثلاث صحف متتالية في مدية “سيتابور” وذلك في أواخر القرن التاسع عشر ، وأصدر أولا جريدة باسم “غالب الأخبار” ثم “رياض الأخبار” وأتبعهما بالجريدة اليومية “تار برقي” (التلغراف) ، وكانت هذه الصحف تطبع في مطبعة رياض المعرفة باسم “رخشان بريس” وأنشأ هذه المطبعة في منطقة خير آباد في ضاحية مدينة “سيتابور” على مقربة من مكتبة فيها ، وكان ثمن العدد لهذه الجريدة اليومية حينذاك مليما واحدا ! .
وجديرا بالذكر أن الفضل في النهوض بالصحافة الأوردية لا يرجع إلى الصحفيين المسلمين فقط ، كما يظن البعض ، بل كان يرجع أيضا إلى شخصيات بارزة من رجال الصحافة والأدب من الهندوس ، ففي نفس الوقت الذي كان فيه “رياض خير آبادي” يتصدر نهضة الصحافة في الأوردية ، أصدر الصحفي البارز منشي منى لال بلجرامي “مجلة شهرية من “سيتابور” نفسها في اللغة الأوردية باسم “تهذيب الآثار” ، وقد كتب صاحب كتاب “أختر شاهنشاهي” عن تهذيب الآثار ما يلي :
إن تهذيب الآثار التي تصدر من سيتابور ، لفتها واضحة وأسلوبها سهل المنال لعامة الناس ومقالاتها ذات طابع وطني وإصلاح اجتماعي .
وفي تلك الفترة تأسست في مدينة “لكهنو” جمعية علمية باسم “انجمن علمي” (المجلس العلمي) وانضم كبار الكتاب المسلمين إليها ، ومنهم مولانا “عبد الحليم شرر” و “منشي سجاد حسين” وخوارجه بنده حسن خان و “السيد وارث علي علوي” وخاجه مير أسد جعفري وتولى سكرتيرية المجلس السيد “أختر الدولة محمد أشرف النقوي” ، وكان المجلس المذكور يستهدف نشر العلوم الشرقية والبحوث فيها فصدرت تحت رعايته عدة مجالات علمية وأدبية ومنها : مجلة “أختر هند” (1888م) وأشرف جازيت من مدينة لكهنو ، ومجلة “أنجمن علمي” (1882م) من بدايون وإلى جانب النشاط الصحفي والاعلامي كان ذلك المدلس يعقد ندوات علمية وأدبية في فترات فتلقي فيها البحوث لتناقش ثم تنشر نتاج تلك البحوث والمناقشات في المجلات التي كان يشرف عليها ، وهكذا صارت تلك الفترة نقطة تحول في تاريخ الصحافة العلمية في الهند .
كانت الثورة التي اندلعت نيرانها في أنحاء الهند ضد الحكم الأجنبي والمطالبة بالحرية السياسية نقطة هامة في تطور الصحافة في الهند ، ففي أعقاب الثورة حاول الانجليز لتحويل اهتمام الشعب الهندي عن السياسة الوطنية والشعور القومي الجارف وأتت إلى الوجود في تلك الأيام حركة أدبية بإيعاز منهم باسم “حركة التهذيب” وعملت تحتها هيئات وجماعات في أنحاء البلاد ، وأصدرت جرائد ومجلات ومنها جريدة “بابليك” أو بينيان (الرأي العام) باللغة الانجليزية التي كانت تصدر من بنارس ، تحت إشراف الدكتور “أمير علي” وصدر أول عدد منها في مايو عام 1883م ، وفيما بعد خصصت بعض صفحاتها في اللغة الأوردية .
وعلى أثر ثورة 1857م قام الصحفي المسلم المعروف … أختر الدولة بجولة في مدن الهند ، لتفقد أحوال الصحف والمجلات فيها ، وقد قضى فيها بضع سنوات يجمع المعلومات التفضيلية عن كل صحيفة ، لكي ينشر كتابا خاصا عن الصحافة الهندية .
وكان المستشرق الفرنسي الشهير الدكتور جارسان دي تاس” معاصرا لأختر الدولة واجتمع به مرات فيقول دي تاس عنه :
وأثناء زيارتي لمنزل السيد أختر الدولة شاهدت مكتبته الضخمة فيه ، وكانت تضم من مجلدات مختلف الصحف والمجلات عدد يتراوح فيما بين 1500 ، 2000 من المجلدات الفخمة الكبيرة ولم أر حتى اليوم مكتبة علمية تضم مثل هذه الذخيرة النفسية في موضوع الصحافة ، وقد وضع بعض هذه الصحف في صناديق خشبية ، ودون في الجزء الثاني من كتابه “أختر شاهنشاهي” الجرائد والمجلات التي صدرت بعد عام 1888م إلى حوالي عام 1920م ، ولكن المنية وافته قبل أن يكمل هذا الجزء ويطبع ” وهذا يدل على مدى نشاط الصحافة في الهند في القرن التاسع عشر ، واهتمام الهنود والمستشرقين بها دورها في النهضة القومية والعلمية في البلاد .
وفي مارس عام 1969م بدأت تصدر من سيتابور مجلة “غالب الأخبار” الأسبوعية كل يوم الاثنين ، وأصدرها السيد محمد صادق المحاوي وأغا عبد الغني وكان ناشرها السيد “ميرزا محمد قاسم” من مطبعة نادرة كاه .
وفي يناير 1969م أيضا صدرت بمدينة أجرا المجلة الأسبوعية ” آجرا أخبار” في اللغتين الأوردية والهندية وكانت تدعو إلى الحرية والاستقلال ونشر الشعور القومي ، وبدأت تنشر خلاصية افتتاحيات ومقالات الصحف الانجليزية وتولى تحريرها المولوي خواجه “يوسف علي” مدرس العربية الأول بالكلية الحكومية بآجرا ، بينما قام بإدارة شئونها منش خواجه تجمل حسين” .
وكانت الصحافة مثلا حيا للانسجام الطائفي الذي كان يسود الهند جيلا بعد جيل منذ القرون ، حتى ينجح الانجليز في إفساد هذا المظهر ، إلى حد ما ، بسياستهم المتبعة “فرق تسد” وأن التضامن الذي حصل بين الهندوس والمسلمين أثناء ثورة 1857م ، وفي أعقابها لا يوجد له مثيل في التاريخ فتجلت مظاهر هذه الألفة الطائفية في الصحافة الأوردية الإسلامية في الهند ، وأن الشاعر الهندوسي المشهور “منش راج بهادور زحمي ” كان يصدر مجلة شهرية باسم “رياض النبوي” وخصص معظم صفحاتها لنشر سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والقصائد الخاصة بمدحه ، ونشرت فيها فعلا عدة قصائد للشعراء الهندوس في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام ، والأئمة المسلمين وقد ذكر المؤرخ الصحفي المسلم أختر الدولة في كتابه تفاصيل هذه المجلة ، فقال : أن مجلة رياض النبوي صدر أول عددها في نوفمبر سنة 1887م وكانت تصدر شهريا من مدية شيفاراج بور بمديرية كانبور تحت رئاسة تحرير صاحبها منشي راج بها دور زخمي” الملقب “بفرياد زخمي” وتحت إشراف لجنة دار العلم وكانت تنشر قصائد مدحية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون يشاطرون إخوانهم الموطنين الهندوس في شعورهم بسلاح الصحافة الإسلامية أيضا ، ويتجلى دورها في هذا المضمار من الواقع التاريخي الآتي : قامت جماعة من المسلمين لتوحيد الصفوف بين الهندوس والمسلمين وتصفية الجو تماما بينهم ، ليقوموا صفا واحدا ضد الاستعمار ولنيل الحرية والنهضة الوطنية العامة ،فأنشأ الصحفي المسلم منش سندي خان صفي مجلة أسبوعية تصدر كل يوم الأربعاء من هوشيار بور في بنجاب وسماها “جاوراكشا” (جماعة البقر) وكانت المجلة تدعو المسلمين وغيرهم من الذين لا يجدون حرجا في ذبح البقر للامتناع عنه علنا لئلا يجرح شعور الهندوس ولتصفية الجو الطائفي في البلاد (صدر العدد الأول منها في 20 يناير 1884 الصحافة هذه هي نبذة من دور الصحافة الإسلامية الهندية في عصورها الأولى ، في تقوية الألفة الطائفية في البلاد والانسجام بين المواطنين من مختلف الملل) .
قال اللورد ليتون (1803 – 1873م) في وصف صحافة الهند … أن الصحافة المطبوعة لم تكن معروفة في الهند قبل الربع الأخير من القرن الثامن عشر ، وأنه على الرغم من ذلك ، فإن الصحافة غير المطبوعة ، كانت معروفة فيها حتى في العصر المغولي ، ويتبين من هذا البيان أن الصحافة غير المطبوعة ، وأنها كانت صحافة تكتب بلغات البلاد ، كانت هناك مطبعة أوردية تابعة لكلية “فورت وليام” ثم أنشأت في كلكتا مطبعة أوردية بالحروف الحديدية باسم “هندوستاني بريس” .
أصدر مولانا أبو الكلام آزاد مجلة باللغة الأوردية باسم الهلال وصدر العدد الأول منها في شهر يونيو 1912م وكان صدور الهلال حدثا تاريخيا في الصحافة الهندية فجعل آزاد غايته من هذا المجلة مزدوجة ، فبينما كان يدعو فيها الشعب الهندي عامة والمسلمين خاصة إلى الثورة ضد الاستعمار والحكم الأجنبي ، يدعو أيضا إلى إحياء الروح الدينية الإسلامية الصحيحة في المسلمين وتعريفهم بتعاليمها الحقة البعيدة عن البدع والخرافات .
ونالت مجلة “الهلال” إعجاب الوطنيين والمصلحين والمفكرين من مختلف الطوائف والمدارس الفكرية ، وبدأت الهلال تزود القراء بالتوجيهات الدينية والسياسية معا بطريقة لم يعهدها الناس من قبل في الصحافة الأوردية وغيرها ، ولكن السلطات الحاكمة في الهند حينذاك قد أغلقت مجلة الهلال حينما رأت فيها شعلات تلهب بخا نار الحماس في الجماهير الشعبية ضد الاستعمار ، ودعوة الإصلاح الديني والاجتماعي الشاملة .
وبعد فترة قصيرة من توقف الهلال أصدر مولانا “آزاد” مجلة أخرى باللغة الأوردية باسم :البلاغ” وصدر عددها الأول في شهر المحرم سنة 1334هـ ، وكان يكتب فيها أحيانا افتتاحياته باللغة العربية في أسلوب بارع ، واستهدف منها أن يقرأها ويفهمها علماء الهند الذين يحسنون العربية وكذلك العلماء العرب الذين تصل إليهم أعدادها ، وأن هذه الطريقة قد ساعدت أيضا على إيجاد التفاهم الفكري بين علماء الهند والعرب ، ومن ناحية أخرى ما كان يريد آزاد أن يخاطب الجمهور في أمور دينية اختلف فيها العلماء المجتهدون ، بلغة عامة الناس ، لئلا يثور الجمهور ويجرح شعورهم ، بل كان يخاطب العلماء فقط في مثل هذه الأمور باللغة العربية التي يحسنها إلا العلماء المتفقهون .
وجدير بالاعتبار ، في معرض الكلام عن التاريخ الثقافي والحضاري ، لشعوب الإسلام في العالم ، أننا لا نعرف شعبا مسلما قد نجح في الجمع بين الثقافتين أي الثقافة الإسلامية ذات الطابع الخاص وبين الثقافة المحلية الوطنية مثل المسلمين في الهند ، فكان المسلمون في الهند – ولا يزالون – أوفياء تماما لدينهم والثقافة الإسلامية العربية التي لهم فيها صفحات مجيدة ، وفي الوقت نفسه أوفياء لوطنهم ، ويسهرون على بنائه ونهضته في جميع المجالات ، ودخلت اللغة العربية في الصحافة الهندية بصيغة واسعة منذ بدء صورة مجلة “الجامعة” الأسبوعية من مدينة كلكتا تحت رئاسة إمام الهند أبي الكلام آزاد ، وكذلك مجلة “البيان” الشهرية من مدينة لكهنو ، ومجلة “الضياء” عن جماعة ندوة العلماء بالهند .
وفي عام 1950م بدأ مجلس الهند للروابط الثقافية إصدار مجلة باللغة العربية باسم “ثقافة الهند” تحت إشراف مؤسس المجلس ور ئيسه الأول مولانا “آزاد” ومن أهدافها الرئيسية تعزيز الروابط الثقافية بين الهند والعالم العربي ، وقد فتح مولانا آزاد بابا جديدا رائعا في الصحافة العربية في الهند وبحوثه العلمية القيمة التي نشرها في الأعداد الأولى من ثقافة الهند حول “شخصية ذي القرنين” المذكور في القرآن ، وقد نالت هذه البحوث إعجابا وتقديرا بالغين في الأوساط العلمية في الأزهر وسائر بقاع العالم العربي .
ومن المجلات التي تصدر اليوم في الهند باللغة العربية “البعث الإسلامي” و”الرائد” من ندوة العلماء بلكهنو ، و”دعوة الحق” من دار العلوم بديوبند ، و”الدعوة” لسان رجال الجماعة الإسلامية ، من دلهي ، وهذه نماذج من جهود عشاق اللغة العربية في الصحافة الهندية الحديثة ، وهناك عدد كثير من المجلات والصحف الإسلامية تصدر في أنحاء الهند واليوم في مختلف اللغات المحلية والانجليزية ، ومنها مجلات ذات طابع إسلامي وعلمي ، وأخرى ذات طابع سياسي ، وقد دخلت الصحافة الإسلامية في الهند في دور ذهبي بعد أن أصبحت البلاد مستقلة ذات نظام يكفل حرية التعبير والصحافة ، عكس ما كانت الحال عليه في عهد الاستعمار والاستبداد الإقطاعي ، وقد بدأ لأول مرة تعليم الفن الصحفي الحديث على مستوى الجامعات في الهند ، في جامعات عليكرة الإسلامية تحت إشراف بعض الصحفيين المسلمين البارزين ، وفي عام 1954م أنشئت فصول للصحافة في الجامعة العثمانية بحيدرآباد ، وتلعب الصحافة الإسلامية في الهند اليوم دورا فعالا في بناء الوطن على أسس ديمقراطية وحضارية سليمة ، كما أنها تعمل جاهدة لنشر الثقافة الإسلامية بين أبناء الأمة بأسلوب سهل المنال .