الخليج اليوم – قضايا انسانية – 9/9/1985
يمكن لنا أن نلخص القيم الإنسانية التي تمتاز بها الحضارة الإسلامية على ما سبقها ولحقها من حضارات ، والتي أعلمت لهذه الحضارة الحيوية والتفوق مدى الدهر في النفوس الخيرة ، في نقاط ثلاث :-
الأولى :- التسامح الديني ، فقد امتازت الحضارة الإسلامية ، باحترامها لأصحاب العقائد الدينية الأخرى ، ونالوا في حظيرة هذه الحضارة كل حرية وسهولة ليمارسوا شعائر عقائدهم وتعاليم مذاهبهم ، ونشر ثقافتهم وحضارتهم ، وإذا دل هذا التسامح على شيئ إنما يدل على مدى الروح الإنساني العام والحب العلمي لدى أهل الإسلام ، لأن القرآن الكريم والسنة النبوية قد منحا للتقدم العلمي والحضاري أهمية كبرى ، ووضعا المعيار العلمي والعملي للمقارنة بين الأفراد والجماعات ، ولا فرق بين شخص وآخر في نظر الإسلام إلا بالعلم النافع والعمل الصالح .
الثانية :- العدالة الاجتماعية . وحينما ألغى الإسلام نظام الطبقات بين البشر على أساس اللون والجنس والوضع الاقتصادي والسياسي وما إلى ذلك من الفوارق المصطنعة ، فقد ألغى أيضا نظام التفرقة بين المجتمع الذي يعيش تحت ظل دولة الإسلام ، سواء أكان أبناء هذا المجتمع مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو غيرهم ، فقد ساعدت الدولة الإسلامية علماء اليهود والمسيحيين والصابئة والهنادكة ، على نشر ثقافتهم وحضارتهم بمختلف وسائل التشجيع والمعونات الملية . وكان المسلمون يعاملون في أي عصر من العصور ، اليهود والنصارى على أنهم من أهل الكتاب . وفي هذا دليل ساطع على عمق مبدأ التسامح الديني والعدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية الحقة في نظر الحضارة الإسلامية .
والثالثة :- الروح العملي ، وللتعاليم القرآنية والإرشادات النبوية أثر بالغ في الحيااة العقلية للمسلمين ، والإسلام يحث دائما أبدا ، على النظر والتفكير في الكون الذي نعيش فيه وفي ظواهره المختلفة ، ورفع شأن العلم والعلماء ، بحيث لا يوجد له مثيل في تاريخ الأمم والشعوب ، كما يقول القرآن الكريم بأسلوب صريح جدير بالاعتبار أي اعتبار : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” ثم يقول : “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” . ثم يذكر الإنسانية كلها بأكبر نعمة أنعمها رب الكائنات إذ يقول في كتابه الحكيم :”واذكروا نعمة الله عليكم ، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة” .
وكانت الروح العلمية هي الينبوع الأول الذي اغترف منه المسلمون الأوائل أصول ثقافتهم وحضارتهم وانطبعت حياتهم بطابع اللنظر والفكر والاختراع وتحصيل العلوم من كل مكان وظرف ولسان ، متخذين شعارهم من إرشاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم “الحكمة ضالة المؤمن” فأدى التعليم الإسلامي إلى اشتغال المسلمين والمتمسكين به ، بالعلوم الكونية على اختلافها ، وهي الجغرافيا والكيمياء ، والطبيعة (الفيزياء) والفلك ، والطب ، والرياضيات ، وهذا كله إلى جانب علوم التفسير والحديث والفقه وعلم التاريخ والمنطق والفلسفة وغيرها من العلوم النظرية التي ازدهرت بأيدي العلماء المسلمين . .
وأن تعاليم القرآن هي الينبوع الأول والأكبر للحضارة الإسلامية وعلى أسس هذه التعاليم قام بناء هذه الحضارة . ولا يخفي أيضا على من له إلمام بتاريخ حضارات الأمم ، ما كان للأمة العربية من حضارة عريقة وثقافة إنسانية عالية قامت في جزيرة العرب نفسها ، سبأ وحمير ، وكذلك الحضارات إلا شورية والبابلية والآرامية ، وما كان لهذه الحضارات من علاقات وصلات مع الحضارات الكبرى التي قامت في الشام ومصر والعراق والهند . ومن الواضح من الحقائق التاريخية أن المجال الذي نهضت فيه الحضارة الإسلامية هو موطن معظم الحضارات الكبرى في العالم الإنساني ، وأن الينبوع الجديد لهذه الحضارة هو رسالة الإسلام العلمية والحضارية ، وهذه الرسالة تدعو إلى بناء حضارة ناهضة وحماية كل الحضارات الإنسانية . ووضعت هذه الرسالة القاعدة السليمة لخلق حضارة لا تناضل فيها لبعض على بعض إلا من حيث المقدرة العقلية والمواهب الشخصية وقضت على النظرية القديمة التي عبرأرسطو نفسه عنها حيث قال ما معناه : “إن العبد شيئ من المتاع ويشبه أثاث المنزل “. غير أن الحضارة الإسلامية أزالت هذا الحاجز الذي فرق بين البشر إلى سادة وعبيد ، واعتبرت الناس جميعا متساوين كأسنان المشط .
ويتحدث الكاتب المستشرق المعروف “هاريسون” في كتابه “العرب في وطنهم” عن إنسانية الحضارة الإسلامية وسموها : “… فحيث حل الإسلام تأكدت قيمة الفرد ، ونهض الناس معتزين بكرامة لا تقهر ” . بينما قال المستشرق “رينان” في معرض عن إنسانية الحضارة الإسلامية : “إن كل الحواجز التي تفرق بين بني الإنسان قد انهارت ، وأن الجميع كانوا يسهمون متفقين في تشييد الحضارة المشتركة ” .