الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 28-أغسطس-1986
لقد سئل أحد المفكرين مؤخرا عن أسباب انحطاط المسلمين حضاريا وعلميا وتكنولوجي في العصور الأخيرة بعد أن كانوا أصحاب حضارة عالمية منيرة وحملوا لواء العلوم والفنون والآداب إلى أرجاء الدنيا وفتحوا أبواب الاختراعات والاكتشافات العلمية في جميع المجالات أمام العالم الحديث بشهادة التاريخ واعتراف المنصفين من كل قطر وعصر ، وكان العالم الغربي حينذام في تأخر حضاري وكانت الكنيسة والرهبانية تسيطران على مقاليد السيادة على الشعوب والتقاليد والخرافات تسود حياتهم في كل الأمور وفي نفس الفترة المظلمة في الغرب كان العرب المسلمون يقدمون للبشرية أسمى وأمثل وأكمل حضارة إنسانيةلم يسبق لها مثيل حتى صاروا أساتذة الدنيا في كل مجالات الأخلاق الفاضلة وفروع العلوم والفنون ،خلال فترة وجيزة بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء وعيشة قبلية ضيقة قحلاء ، وفي معركة عصبية عشواء ، ثم أصبحوا اليوم نماذج التخلف في جميع مرافق الحياة وأذناب الغرب في أسباب التقدم وعناصر الحياة العصرية وأخذهم مركب النقص تجاه أصالتهم وكبت رؤوسهم عقدة الانبهار بكل ما هو غربي وبكل ما هو أجنبي بل وصاروا عنوان التخلف الحضاري والفوضى والانحلال والسخرية في أعين شعوب الغرب وصحفها ومجلاتها ووسائل إعلامها شكلا وموضوعا فأجاب المفكر :إن الغربيين ابتعدوا عن نظامهم الديني الذي كان سائدا بينهم فتقدموا حضاريا وماديا ، وأن المسلمين ابتعدوا عن نظام الدين الإسلامي الذي كان يتمسك به الأولون فتخلفوا حضاريا وماديا أيضا .
وكذلك يتشدق بعض البسطاء من المتعالين أو المتآمرين بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين فنقول لهم بكل صراحة وقوة وبرهان عقلي ونقلي إن ابتعادهم عن الإسلام هو السبب لتخلفهم الحضاري والمادي اليوم ، وكان تمسكهم به هو السبب لتقدمهم الحضاري والمادي في الماضي فلا يقول أحد له أدنى بصيص من العلم بحقائق التاريخ ووقائع العصور وحالات الأمم أن مسلمي اليوم أكثر تمسكا بالإسلام من أسلافهم العظام ، ولا يزعم مكابر ولا عنيد أن اتباع النظام الإسلامي في مرافق الحياة قد أعاق المسلمين الأوائل من فتح البلاد وهداية العباد وإنشاء الحضارات ونشر المعارف والعلوم والقيام باختراعات علمية واكتشافات كونية بهرت العقول وأنارت القلوب وأقرت الأصول والقواعد لتدعيم أواصر الحضارة الإنسانية المتكاملة .
من ضلال مبين إلى فتح مبين
وكفى للباحث العاقل قناعة ودلالة على أن الإسلام هو مدار التقدم الحضاري لأمة الإسلام ، أن يلقي نظرة خاطفة فاحصة على حالة العرب قبل البعثة المحمدية وبعدها فما كانت لهم حضارة روحية ولا مادية ولا علمية وكما أنهم كانوا يعيشون في تخلف علمي وخلقي وسلوكي وفي عيشة قبلية ضيقة الآفاق وخرافية العقائد وعصبية الأواصر حيث كانت الحروب العنصرية والعرقية أتفه الأسباب شائعة بينهم ، وعبادة التماثيل والأصنام والأحجار متأصلة فيهم ووأد البنات وسفد الدماء وجهل الناس لقواعد الحياة النظيفة منتشرة في مجتمعهم حتى كان يعرف عصرهم باسم :”عصر الجاهلية” واشتهر مجتمعهم بلقب “الأميين” وكانوا عنوان التخلف في مرافق الحياة الإنسانية فبعث الله رب العزة فيهم أكرم رسله وأعظم أنبيائه بأخلد وأمجد وأمثل معجزة وهي تتمثل في تكوينه وبنائه بفضل الدستور الإلهي الذي أنزل عليه ربه وهو القرآن خلال ثلاث وعشرين (23) عاما ، من تلك الأمة المتخلفة المتخاذلة والمتحاربة المتنافرة المتصفة بالجاهلية والأمية أمة متحضرة متقدمة مثقفة ومتحابة ومتبحرة في العلوم والمعارف مثالية في الفضائل والأخلاق السامية وحاملة الشارة العظمى والجائزة الكبرى بعنوان الشرف والفخر :”خير أمة أخرجت للناس” وإنما هي الخيرية في كل مرفق من مرافق الحياة وهذا هو المفتاح المبين الذي تحقق لهم بمنهج الإسلام القويم بعد أن كانوا في ضلال مبين وإلى هذه المعجزة الكبرى قد أشار القرآن الكريم ، ذكرى وعظة وعبرة لأولي الألباب وذوي الأبصار إلى أبد الدهور والعصور فقال :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة) ، وأن الترتيب المنطقي والطبيعي لمعرفة حقائق الحضارات وأسباب التقدم والتخلف الحضاري والعلمي لأي شعب أو قوم يتطلب من الدارس الفاهم أولا أن يرتب الأحكام على القضايا المسلمة المعروفة حسب الأسلوب المنطقي السليم فكانت الحضارة العربية الإسلامية أو حضارة العرب والمسلمين بعبارة أدق ، تزدهر في أنحاء الدنيا في خير العصور التي كانوا فيها متمسكين بالإسلام منهجا كاملا وشاملا في جميع مرافق الحياة البشرية وصاروا مضرب الأمثال للحياة الإسلامية ، وعندما ابتعدوا عن التمسك بالإسلام نظاما لحياتهم ونهجا لسلوكهم ودستورهم لحكمهم ، بدأت حضارتهم تتدهور وآفاق ازدهارها تضيق ، ونورها يخبو كما هو شاهد عيان في كل مكان فيتبين لكل ذي بصيرة ودراسة بمجريات الأمور وحقائق التاريخ إن سبب تخلف العرب والمسلمين هو الابتعاد عن الإسلام كما أن سبب تقدمهم كان الاعتصام به ، وفضلا أن الارتباط بين الإسلام وتقدم العرب وحضارتهم وثيق وثابت بنص القرآن وواقع التاريخ المبين .
السر في هذا التخلف غياب سبب التقدم
إن السبب الحقيقي والسر الكامن في ازدهار حضارة إنسانية متكاملة مثالية لأمة الإسلام في عصورها الأولى هو المنهج الإسلامي الذي رسمه القرآن الكريم وتخرج من مدرسة القرآن الذي بينه وفسره الرسول الأمين بسيرته وتبعه أصحابه والتابعون لحمل تلك الرسالة وتبليغ تلك الأمانة ، ورجال الحضارة الإسلامية الإنسانية المثلى وهي أسمى حضارة عرفتها البشرية فجذورها إلهية وفطرية قائمة على الإيمان والهداية والاستقامة وأن القرآن قد كلف الإنسان بمسؤولية بناء الحضارة وحدد مهمة الإنسان في هذا الكون بأنها تعميرها وقد ربط بين العناصر الثلاثة اللازمة لعمارة الأرض وهي : معرفة الإنسان بأن لهذا الكون الذي حوله له رب خلقه ونظمه ويعرف منه البراهين المنقوشة على صفحاته العديدة والدلائل المحيطة به على وجود خالق حكيم وعلى وحدانيته وقدرته وحكمته ، ثم يعرف أن هذا الكون مستمر للإنسان وعليه كشف بعض الآيات الكونية المنتشرة فيه لفهم حقيقة الحياة الإنسانية ، وأما الحضارة في مفهوم المنهج الإسلامي ، فإنما هي نتيجة التفاعل والتعاون الفطري الصحيح بين الإنسان الكون والحياة ، وأن القرآن قد بين الشروط الأساسية الثلاثة لبناء هذه الحضارة الإنسانية المتكاملة ، أولا : إن هذه الحياة الدنيا مزرعة الآخرة وأنها ممر وباب إلى حياة مستمرة وأبقى فلا يجوز له أن يضيع لحظة من هذه الحياة دون طائل وسدى .
وثانيا : إن الإنسان هو خليفة الله في الأرض وقد كرمه بالعلم وسجدت له الملائكة مع أنه مخلوف من تراب ومن ماء مهين فعليه أن يتعامل مع الكون بهدف إنجاز مهمته في الأرض على أساس فهم آياته الله في خلقه وشؤونه واستشعار مسؤوليته في تعمير الأرض ونشر الخير فيها وإنشاء حضارة متكاملة لممارسة بقائها وازدهارها حسب الأسباب الظاهرية الكونية كما أشار إليه قوله تعالى :”هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ” (هود : 61) .
وثالثا : إن الإنسان المسلم يمارس أعماله في إنشاء الحضارة الإنسانية بدافع المسؤولية الملقاة على عاتقه لا بدافع البحث العلمي المحض أو التعشق الكشفي لبعض الأسرار الكونية ولكن معرفة الحقائق الكونية والتنبيه إلى علاقة العلوم والمعارف والاكتشافات بعضها ببعض من الأمور التي فرضها الإسلام على علماء أمته وأن البصيرة العلمية بالدائرة الكونية كلها من قاعدة واسعة لرجال الحضارة التي دعا إليها القرآن وقامت على أساسها الحضارة الأولى لأمة الإسلام في الماضي وقد وضع القرآن منهجا حضاريا شاملا وأن القرآن لم يرسم ذلك المنهج لأن يكون ترتيلا يتلى أو بيانا يذاع أو بلاغا يعلن على الملأ ولكنه منهج ملزم التنفيذ وواجب الأداء وكذلك لا تتحقق إقامة بنيان الحضارة الإسلامية الإنسانية الحقة بالطلاء الخارجي ولا الادعاء العابر ، وأن المسلمين لم يحققوا انتصاراتهم الباهرة ولم يصنعوا حضارتهم الزاهرة لمجرد أنهم كانوا يحملون بطاقات هوية الإسلام أو كانوا ينتمون إلى قائمة المسلمين الرسميين بل حققوها بإلزام أنفسهم بوضع التعاليم الإسلامية موضع التنفيذ وبالتعامل مع المكونات التي تحيط بالمنهج الذي وضعه دستور تلك التعاليم .
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
وقد تبين لنا من الأدلة القاطعة من نصوص القرآن وحقائق التاريخ ووثائق الأحداث والوقائع عبر العصور أن سبب تخلف المسلمين في العصور الأخيرة إنما هو بسبب تحجرهم عن التحرك نحو الصعود في مراقي التقدم العلمي والازدهار الحضاري ، وأن الله تعالى لم يلتزم بتمكين الأرض والكون لأي قوم لمجرد أنهم يحملون شعارات أو ينتمون إلى فئات أو جماعات بل يمكنها ويورثها للذين يتصفون بصفات معينة ويضعون أسبابا كونية معينة موضع التنفيذ ويتعاملون مع النواميس الطبيعية لأنه لم يخلقها باطلا ولا سدى ، وإما حدوث بعض المعجزات وخوارق العادات في بعض الحالات فليس بقانون إلهي عام ، وعلى هذا جرت سنة الله سبحانه وتعالى في كونه ولن نجد لسنة الله تبديلا ، ولا يتأتى للعرب والمسلمين أن ينهضوا من هذه الهوة السحيقة التي وقعوا فيها اليوم بسبب الواقع في مصيدة الأعداء المتربصين ، وبفقدان الرغبة الكافية للنهوض منها وبالفراغ الفكري والاضطراب النفسي والانبهار بنهضة الغرب ومركب النقص تجاهها ونقص الثقة بل وعدمها بين جماعات الأمة الإسلامية إلا بالرجوع إلى المعين الأول والنهل من ينابيعه الفياضة والنظر إلى سيرة أسلافنا الأمجاد العظام بعقول مؤمنة وبصائر جادة فتتولد في نفوسهم طاقة إيمانية حقة للانطلاق إلى النهوض من أرض صلبة وطريق مأمونة ، مستنيرين بالنبراس النبوي :”لا يصلح آخر هذه إلا بما صلح به أولها ” .