الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 4-أبريل -1987 م
أشرنا في الحلقة الأولى من هذا الموضوع إلى الدعائم الأساسية التي قامت عليها الدعوة القرآنية والمبادئ التي وضعها النظام الإسلامي لبناء أمة مثالية في جميع مرافق الحياة البشرية بحيث تكون الأمة الإسلامية قدوة للبشرية كلها وأسوة في بناء حياة سعيدة ناجحة وهانئة وراضية ومرضية في الدنيا والآخرة بحيث تتحقق لها العناصر الضرورية و الكمالية في كل البيئات والظروف الطبيعية للأفراد والجماعات من المجموعة الإنسانية ، وأن معرفة هذه المبادئ وتطبيقها في شؤون اللحياة هي الوسيلة الأولى لبناء أمة مثالية لها مركزها وثقلها ووزنها في العالم الإنساني ، وهذه المعرفة هو المحور الأساسي لتحديد الدور الحضاري الذي لعبته هذه المركز الفريد الذي نالته الأمة الإسلامية يرجع إلى المبادئ القرآنية وإلى هذه الحقيقة المرة الواضحة يشير كتاب الله الحكيم :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة : 20) .
فتحولوا إلى زعماء الحضارة والنشاط الفكري ، وكان هذا التحول بداية عصر جديد في تاريخ الحضارة الإنسانية .
وكانت بداية التكوين العلمي والحضاري والفكري للأمة الإسلامية ، هي حب النبي العربي للعمل والمعرفة ، ذلك الحب الذي يميزه عن غيره من المعلمين ، ويجعله أقربهم نسبا إلى عالم التفكير الحديث ، ولما كان النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدعى لشخصه القدرة على صنع المعجزات ، فأنه يستشهد بالمبادئ والتعاليم التي جاء بها صدق رسالته التي بعثه الله بها إلى البشرية جمعاء ، ولا يلجأ إلى المعجزات للتدليل على تأثيره ، بل وكان يدعو دائما إلى النظر في الظواهر الطبيعية المألوفة ، للاستدلال على وجود الخالق لهذا الكون ، وقدرته وعظمته ، ويخاطب العقل والضمير ، ويدعو الناس إلى التأمل في هذا الكون العجيب ، والشمس والقمر والنجوم ، والسنن الكونية التي تسرى في هذا الوجود ، كما يقول القرآن الكريم : :إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ” ، “وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها” ، “وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته” .
وبفضل الروح العلمية والنظرية التي بعثها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في قلوب العرب ، أصبحت المدينة المنورة ، وبخاصة بعد فتح مكة ، مقصد طلاب العلم والبحث من سائر الأقطار ، فهرعت إليها الوفود من الفرس واليونان والشام والمغرب وأفريقيا ، على مختلف ألوانهم والاستماع إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يحث على طلبهم العلم ، فيقول :”تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ، ودراسته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وطلبه عبادة وتعليمه صدقة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة” .
ويقول أيضا : “يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء دم الشهداء ، ويأمر أصحابه بطلب العلم ولو بشق الأنفس ، حيثما وجد “اطلبوا العلم ولو بالصين” ، وكان رائده في ذلك أول ما أنزل عليه من رب العزة :”اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” ، فدل على كمال كرمه تعالى بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا تحصى ، فلولا الكتابة ما دونت العلوم ولا قيدت الحكمة والفلسفة ، ولا ضبطت أخبار الأولين للآخرين .
وعلى هذه الصيحة الأولى من صوت الإسلام ، قد بنى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صرح حضارة أمته ، وقد أيقظت هذه الصيحة همة الأمة العربية ، وغرست تعاليم نبيها العظيم شجرة المعرفة في قلوبها مع جميع فروعها ، فتكونت في زمنه صلى الله عليه وسلم نواة لمدرسة علمية حضارية في ا لمدينة المنورة ، فتطورت فيما بعد إلى جامعات كبرى عالمية في القاهرة وبغداد وقرطبة وغيرها .
ومن الطبيعي أن يؤدي مثل هذه التعاليم إلى تشجيع حرية البحث ، وبعث الرغبة في طلب العلم والإقبال على فروع المعرفة التي تتناسب مع مطالب الأمة الرائدة للإنسانية ، ومع مطالب الدولة الإسلامية القائدة للبشرية .
(يتبع)