الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأحد 5-أبريل -1987 م
عرفنا من المقال الماضي أن بنيان الأمة الإسلامية وحضارتها الإنسانية المثالية قام على الأسس العلمية والفكرية المقرونة بالإيمان والعقيدة والنية الصالحة ومن هذا المنطلق الجديد الذي شهدته البشرية منذ الرسالة المحمدية ، قد تحول النشاط الفكري والجهد الحضاري من مرحلة تقليدية قديمة إلى عصر جديد من تاريخ الأنشطة الحضارية ، وكانت نقطة التحول في تلك المرحلة الجمع بين الفكر العلمي والتجريب العملي ، وبعبارة أخرى الجمع بين النظريات العلمية والخبرات التطبيقية فجاء المسلك الحضاري الإسلامي في إطار الروح العلمية والعملية وأن القرآن دائما يدعو الإنسان إلى التعليم والتعقل ثم التكيف مع مقتضيات المعلومات والمعقولات لتكون حياته كلها في نور ووضوح وبينة .
وبعد مرور مرحلة التكوين والتجربة والاختبار ، أصبحت الدولة الإسلامية ، وبخاصة في عهد العباسيين ، مستودع الذخائر العلمية في العالم ، وكان وكلاء الخلفاء ينقبون في كل بلد من بلاد العالم عن كنوز الثروة الحضارية القديمة ثم يجلبونها إلى عاصمتهم ويعرضونها على الناس وينشرونها بينهم فأصبح المسلمون يحملون لواء الحضارة في كل مكان وبؤسسون المكتبات والمعاهد العلمية في كل مدينة ، ويدعون كل قاصد للدخول إليها ، ويدرسون آراء كبار الفلاسفة القدامى ، ويعقد الحكام بأنفسهم المجالس العلمية والمناظرات الفلسفية .
ولأول مرة في تاريخ يشهد العالم دولة تؤازر وتحتضن جميع أنواع العلوم والآداب والفنون وتعمل على انتصارها ، حتى ظفقت كل مدينة في الدولة الإسلامية تنافس أختها في بناء حضارة إنسانية راقية تجمع بين خيري الروح والمادة اللتين يتكون منهما الكيان الإنساني الحق ، وأن الأمة الإسلامية هي أمة ذات هدف معين في الحياة ورسالة كاملة في العالم ، فحضارتها و ثقافتها وكفاحها وإنتاجها وكل ما يتصف بها من حركة ونشاط خاضع لمبادئها وغاياتها ورسالتها ، وهي صاحبة الرسالة الإنسانية الجامعة التي اتى بها خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مختتما ومكملا لحلقات الرسالات الإلهية للبشرية ، وهذه الرسالة هي التي يجب أن تسيطر على جميع مواقف الأمة الإسلامية وتصرفاتها ، وأن مركزها ينبغي أن يكون مركز التوجيه والإرشاد والقيادة الثقافية والحضارية والفكرية ، ويعلن القرآن الكريم بكل قوة وصراحة هذه النظرية وتلك الغاية :”كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” . ويقول أيضا :”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” .
وحينما يأمر الإسلام أمته بالكفاح في سبيل الحياة والعلم والطبيعة للغايات الكريمة ولصالح البشرية وخدمة الإنسانية ، يطلب منها أن تستخدم كل قواها وجهودها ومواهبها وجميع رسائلها وذخائرها لتكوين المجتمع الصالح وإعلاء كلمة الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ويمدح القرآن من يسعى للجميع بين خيري الدنيا والآخرة ، فيقول :”ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب” ، من هذه الحياة هي الجملة الحكيمة المأثورة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه الجامعة : “أن الدنيا خلقت لكم وأنكم خلقتم للآخرة ” ، فالمسلم يجمع بين الانتفاع بمرافق الحياة وأسباب الدنيا واستخدامها كشيئ خلق له وسخر له ، وبين السعي للآخرة والكفاح لها ، كغاية خلق لأجلها ، وهنا تتعارض النظرية الحضارية الإسلامية مع النظرية الحضارية المادية البحتة التي تبني على أساس أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيئ وهي المنتهى مع المبالغة في تمجيدها والحرص على تزيينها والتهافت عليها .
(يتبع)