الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 11-أبريل -1987 م
رأينا من خلال التجوال السريع الذي قمنا به في الحلقات السابقة جانبا من المقومات الأصيلة للحضارة الإسلامية التي قامت على قواعد المبادئ القرآنية وعناصر الخلود فيها وبفضل تلك المبادئ قد بنى المسلمون خلال فترة قصيرة من التاريخ الزمني في معيار أدوار الأمم وأطوار الحضارات حضارة إنسانية متكاملة وشاملة ، وتجلت فيها العبقرية الإسلامية في شتى فروع العلوم والمعارف والفنون والآداب ، وقد شهد التاريخ الإنساني العادل المحايد بأن الفضل الأكبر في تطور الفكر الإنساني وتقدم المنهج العلمي في العصر الحديث يرجع إلى المنهج القويم الذي وضعته هذه العبقرية الإسلامية في ضوء نبراس المبادئ القرآنية .
ودعنا الآن نسرح بأبصارنا إلى الدور الهائل الذي منحه الدفع القرآني لأمة غارقة في التخلف لى مدارج التقدم الذي أبهر العقول وأذهل النفوس حيث تشهد لدى التأمل ، فإن الإسلام قد ظهر وما هي إلا فترة قصيرة حتى شمل شبه الجزيرة العربية جميعا ، ولم يمض على وفاته صلى الله عليه وسلم وقت قليل إلا وأعلام الإسلام ترفرف على أنحاء شبه الجزيرة ، ثم خلفه خلفاؤه الذين حفظوا الدين والدنيا ، فإن هي إلا فترة وجيزة أخرى حتى رأينا الإسلام يخضع أعظم الأمبراطوريات التي عرفها العالم القديم .
بينما كان جنود الفتوحات يفتحون البلاد للدعوة الإسلامية ، كان جنود العلم يدونون العلوم المختلفة ويضعون القواعد ويرسونها لأقوى نهضة فكرية علمية عرفها تاريخ البشرية حتى عصرهم ، ولما قارب القرن الثاني الهجري على الانتهاء ، كانت العلوم العربية الإسلامية كلها أو جلها قد وضعت أصولها ومبادئها وبنيت دعائمها على أسس متينة ، وان حضارة فكرية تبلغ هذه الدرجة في تلك الفترة القليلة ، فهي حضارة قائمة على مقومات خاصة ، جعلته تسبق حواجز الزمن لكي تصل إلى مدارج الكمال ، كما أنها حضارة جديرة بالبقاء .
إن الشيئ الذي يلفت النظر في هذا المضماؤ هو : كيف وصلت النهضة الفكرية لدى العرب المسلمين إلى هذه الدرجة بهذه السرعة فغن الإسلام دين علم وحضارة ، وأنه قد أمد اتباعه بطاقة روحية جعلته منه قورة حقيقية في جميع مناحي الحياة ، وهو إلى جانب ذلك ، دين إيمان وعمل يجمع بين الحماس الروحي والإخلاص السلوكي ، كما أنه دين يخاطب العقل ويقبل الاجتهاد ويدعو إليه ، ولم يبق أمامنا إذن ، لمعرفة هذه الحقيقة والرد على تلك الأضاليل – الصهيونية الاستعمارية – المسمومة ، إلا البحث في موقف القرآن الكريم إزاء “البحث والنظر” وإزاء “العلوم العقلية والكونية” ، وبدراسة موقفه في هذا المضمار يتبين لنا أن مدى حياة تلك العلوم وبقاءها بين الأمة الإسلامية ، كانت مرتبطة بمبلغ وقوف هذه الأمة على مبادئ هذا الكتاب الحكيم والتمسك بتعاليمه الفطرية السليمة .
ونزل القرآن أول ما نزل في أمة أمية بعيدة عن المباحث العقلية والمسائل الكونية والطبيعية ، وقد ملكت قلوبهم أساطير آبائهم الأولين ، وما كانوا عليه من التقاليد والأوهام ، كما أشار إليه القرآن الكريم :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة : 2) . فكانت المهمة الأولى للقرآن تحرير العقول البشرية من رق التقليد الأعمى وإنهاضها واستحثائها في سبيل التفكير والنظر ، فحفز النفس البشرية لتقرأ صحف الطبيعة وتتدبر الأيام التي أودعها الله فيها .
ولفضل مساعي القرآن بدئ عهد “البحث والنظر” في أرض القرآن وولت في ظله قيود الجمود والحجر الفكريين واستنارت البصائر وتحررت العقول فوطئت أمه القرآن معاقل الفلسفة والحكمة وعلوم الكون بعد أن ماتت أو كادت في كل مكان ، وكان رائدها في ذلك إرشاد نبيها العظيم :”الحكمة ضالة المؤمن ” وقد علمتهم هذه الحكمة أن العلم ليس بعربي ولا عجمي ، وليس بشرقي ولا غربي ، فصارت لأهل القرآن السبق في كل مضمار من شعب الحياة ، وعقدت لهم قيادة عامة في ميادين الحضارة والعلم والأدب ، والفن والسياسة والصناعة والزراعة ، فاغتنموا بفضل الإسلام ، الثروات العلمية والذخائر الفلسفية في بلاد العالم وترجموا إلى العربية ، ما كان موضوعا منها باللغات الأخرى ، وما زالت الأمة الإسلامية تمسك بزمام الأمور في هذا المضمار ، مادامت تتمسك بأصول القرآن وتعاليم نبيه ، عن فهم وإدراك ولم تتخلف هذه الأمة قليلا عن ركب التقدم العصري إلا بعد أن انحرفت قليل عن تلك الأصول .
(يتبع)