الخليج اليوم – قضايا إسلامية -1987 م
إن الحضارة التي يعنيها الإسلام هي التي تجلت آثارها وتوطدت أركانها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة الصحابة رضوان الله عليهم ثم نمت وترعرعت في عهود الخلفاء الراشدين الذين كانوا على نهجهم والتاريخ شاهد على أن تلك الحضارية قد بنيت بذكاء وقوة إرادة وعبقرية ، وليست مجرد عملية نقل وتطبيق ، وتعديل وتحسين أو تقليد لمظاهر المضادات الأخرى وانبهار باختراعات واكتشافات الأمم الأجنبية وكذلك كانت تلك الحضارة مسايرة مع المقتضيات العصرية وحقائقها ومطابقة للنوامس الفطرية ومتطلباتها مع الاحتفاظ بالشخصية الإسلامية وفي حدود العقيدة والأخلاق الفاضلة .
وكانت بداية التكوين الحضاري للأمة الإسلامية هي حب النبي صلى الله عليه وسلم للعلم والمعرفة ، ذلك الحب الذي يميزه عن غيره من المعلمين والمرشدين ، ويجعله أقربهم نسبا إلى عالم التفكير الحديث ومصلح الإنسانية الكامل علميا وفكريا وحضاريا وسلوكيا ومثاليا في جميع مرافق الحياة البشرية ، وكان يدعو دائما إلى النظر في الظواهر الطبيعية المألوفة ، للاستدلال على وجود الخالق لهذا الكون وقدرته وعظمته ، ويخاطب العقل والضمير ويدعو الناس إلى التأمل في هذا الكون العجيب والشمس والقمر والنجوم والسنن الكونية التي تسري في هذا الوجود .
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعي لشخصه القدرة على صنع المعجزات فإنه يستشهد بالمبادئ والتعاليم التي جاء بها على صدق رسالته التي بعثه الله بها إلى البشرية جمعاء ويقول القرآن الكريم : “قل هل يستزي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر : 9) . وبفضل الروح العلمية والنظريات التي بعثها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في قلوب العربي المسلمين أصبحت الأمة الإسلامية رائدة حضارة إنسانية تقوم على دعائم شجرة المعرفة مع جميع فروعها فتكونت نواة هذه الحضارة في زمنه صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ثم تطورت وتوسعت إلى عواصم إسلامية أخرى مثل بغداد ، والقاهرة ودمشق ، وفي عهد الخلفاء العباسيين أصبحت الدولة الإسلامية مستودع الذخائر العلمية في العالم ، وكان وكلاء الخلفاء ينقبون في كل بلد من بلاد الدنيا عن كنوز الثروة العلمية والحضارية والفكرية القديمة وينقحونها ويحفظونها وينشرونها بين الناس .
و هكذا لأول مرة في التاريخ يشهد العالم دولة وأمة وحضارة تؤازر وتحتضن جميع أنواع العلوم والآداب والفنون وتعمل على انتصارها وتبني حضارة إنسانية راقية تجمع بين خيري الروح والمادة اللتين يتكون منهما الكيان الإنسني وأن حضارة مكسورة الجناح ، ومقصورة النجاح .