الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 5-مايو-1986 م
لقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغير نعمة أنعم بها على أحد من عباده حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه ، فيغير شكرا لله بنكران نعمته وجحودها والاستهتار بها ، ويغير طاعته بمعصيته ، وأسباب رضاه بأسباب سخطه فيقول رب العزة : “ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعامها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ” (الأنفال : 53) .
وأن أنواع الفساد والمعاصي والذنوب التي تحدث في الأرض قد تترك آثارا سيئة في الأرض ، مياهها وبحارها وهوائها وأشجارها وثمارها ، وقد قال تعالى مشيرا إلى آثار المعصية والفساد في هلاك الحدث والنسل ونقص في الأموال والأولاد وضيق الحياة في البر والبحر ، وانتشار المخاوف والأخطار في القرى والمدن وفي الطرقات والممرات البحرية والجوية كما هو واضح وشائع في هذا العصر المليء بالويلات والحروب والكروب في شتى المجالات حتى صارت الدنيا مسرحا للصدام والشقاق والخناق بين بني آدم في كل مكان وفي كل آونة ولحظات فأصبح العالم اليوم مصداقا لقوله تعالى : “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ، كان أكثرهم مشركين ، فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون” (الروم : 41-44) .
ما المراد بالفساد ؟
إن المراد بالفساد في الأرض وفي حياة الإنسان هو النقص في الأموال والحرث والذرع والنسل انتشار الأمراض الآلام والمشاكل التي يعانيها الإنسان على وجه الأرض وإلى هذه الدلالة يشير قوله تعالى : “ولنبلونكم بشيئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين” (البقرة : 155) . وقد جاءت هذه الآية في سياق تذكير الناس بواجب ذكر نعمة الله تعالى عليهم والشكر على تلك النعمة وعدم الكفران بها إذ قال قبلها : “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون” (البقرة : 152) .
ولمزيد من الإيضاح والتفصيل دعنا نذكر بعض ما بينه القرآن الحكيم من الأمثلة من قصص الأمم السابقة حيث انخرفت وفسدت طباعها وانتشر الفسق والفجور والظلم والطغيان فغيروا ما بأنفسهم ، فكان ذلك التغيير سبب لظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم ، وقد عم الفساد في جميع مجالات الحياة ، ولا شك في أن هذا البيان الإلهي عبرة وعظة ونظرة وخبة لأولي الأبصار والألباب في هذا الزمن الذي وصفناه بإيجاز في صدر هذا المقال ، فيقول الله سبحانه وتعالى : “ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ، وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا به فما نحن لك بمؤنين، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ، ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بماا عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك لنرسلن معك بني إسرائيل ، فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، فانتقمنا منهم فأغرقنااهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلون” (الأعراف : 130-136) .
وما ربك بظلام للعبيد !
وأن أعظم صفاته تعالى وألزمها وأكرمها الصفات المشتقة من مادة “رحمة” ومنها : الرحمن الرحيم وأرحم الراحمين ، وقد جعل صفة “الرحمن” منسوبة إلى ذاته تعالى نسبة الأبدية والكمالية وحث عبادة على الاتصاف بها واتخاذها رائدة في شؤون حياتهم حتى يكونوا عنوانا للرحمة وتجسيدا للرأفة فقال عن نفسه : “فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة” (الأنعام : 54) ، وقال أيضا : “ورحمتي وسعت كل شيئ” (الأعراف : 156) ، وبعد أن أكد وأوضح صفة الرحمة الأبدية في ذاته العلية نفي عن نفسه الظلم وشوائبه نفيا باتا وقاطعا في عدة آيات وبمختلف العبارات والصيع ليستقر هذا الإيمان في أذهان العباد وتطمئن قلوبهم بذكر عدله وفضله وكرمه بواسع رحمته ومحبته لخلقه ومنها قوله تعالى : “إن الله لا يظلم مثقال ذرة” (النساء : 40) .
قوله أيضا : “إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون” (يونس : 44) ، وقوله كذلك : “ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد” (آل عمران : 182) ، ثم قال : “من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد” (فصلت : 46) .
بكثرة الذنوب تزول النعم وتحل النقم
ولو عاقب الله تعالى الناس في هذه الدنيا بقدر ذنوبهم ومعاصيهم وبكل موبقاتهم وفواحشهم لما ترك على وجه الأرض من دابة ، وكان يحل بها الخسف والنسف كما حل في ديار عاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وإلى هذه الرحمة الإلهية الواسعة يشير القرآن إذا قال : “ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ” (فاطر : 45) .. ثم قال : “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ” (الشورى : 30) .