الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأحد 9-مارس-1986 م
أما الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في مشروعية الجهاد ، وفضله والحث عليه فكثيرة وعديدة ، وكل ما هو مطلوب في مشروعيته وآدابه وشروطه هو أن يكون “في سبيل الله ” وما هو المراد بهذا الوصف اللازم له في كل الظروف والبيئات والحالات ؟ والفحوى الأساسي الواضح بكل صراحة وجلاء من هذا الإطلاق هو أن يكون الجهاد المطلوب في الإسلام نزيها عن كل عن كل شوائب الأهواء الشخصية والمطامع الذاتية وبعيدا عن الأغراض الدنيوية مثل الشهرة والشجاعة والمكانة وما شابه ذلك ويجب أن يكون هدفه الأسمى وإعلاء كلمة وتحقيق العدل والحرية وحقوق الإنسان الفطرية ، ومن هنا يكون منشأ الجهاد الإيمان والتقوى والعبادة في بعد تام عن أغراض الدنيا كلها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتاريخيا .
الجهاد في القرآن
وليتبين هذا المفهوم الحقيقي الموضوعي للجهاد في “سبيل الله” دعنا نقرأ الآن هذه الآيات القرآنية المتعلقة به ثم ننتقل إلى ما جاء من بيان قولي وشرح عملي من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بسبب ما أنزل الله تعالى من الآيات المحكمات والمتشابهات ليكون الناس على بينة وهدى ورشد حيث قال : “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم” (النحل : 44) .
ومن هذه الآيات الحكيمة : ” يا أيها الذين آمنوا هل اادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون ، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ” (الصف : 10-13) .
وقال أيضا : “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين” (العنكبوت : 69) . ثم قال : “لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ، والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ” (النساء : 95-96) .
الجهاد في السنة النبوية
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد وأنواعه وشروطه فأكثر من أن تحصى ، ومنها ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : “إيمان بالله ورسوله ” ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : “الجهاد في سبيل الله ” ، قيل : “ثم ماذا ؟” ، قال : “حج مبرور” . (متفق عليه) . ومنها أيضا ما روى عن أنس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “لغدوة في سبيل الله أو روحه خير من الدنيا وما فيها ” (متفق عليه) .
وقد جاء في حديث رواه الشيخان الإمام البخاري والإمام مسلم رضي الله عنهما – أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : “يا رسول الله ، الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، وفي رواية : يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، وفي رواية أخرى : يقاتل غضب ، من في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” .
التنزه في المطامع الدنيوية
إن الشرط الأول للجهاد الذي يمكن أن يطلق عليه لفظ “الجهاد في سبيل الله” هو أن يكون منزها عن المطامع الدنيوية والأهواء الشخصية وأن أي نوع من الانحرافات عن النية الخالصة لإعلاء كلمة الله ألا وهي الالتزام بتقوى الله تعالى وإرساء مبادئ حرية الاعتقاد والعبادة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورد المظالم وإذا كان الجهاد يستند إلى شيئ نقيض هذه المبادئ الإسلامية الربانية مثل التهافت على المطالب الدنيوية أو الدفاع عن العنصرية أو الطائفية أو العصبية المذهبية الضيقة فهو يتعارض مع قيم الجهاد المقدس المتصف بالمثالية العليا التي أطلق عليها “الجهاد في سبيل الله ” ومع أصوله ومعاييره ومقاصده وبالتالي لا يتحقق به الهدف المنشود ولا يستحق صاحبه للأجر الموعود .
وأن المقصد الأعلى من الجهاد المطلوب في الإسلام ليس مطلب نفعيا ولا ماديا سياسيا أو اقتصاديا ولا استغلاليا ، وإلى هذه النزاهة المطلوبة والحيطة اللازمة في موضوع الجهاد في سبيل الله يثير قوله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ، تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة” (النساء : 94) .
وقد تبين من الآيات والأحاديث المذكورة أن القتال أو الغزو أو الجهاد ، أيا كان اسمه العرفي أو التقليدي ، إذا استهدف تحقيق حلم عنصري ، أو مغنم مادي عاجل من ثروات الأرض وأموال الدنيا ، أو كان وراء تحقيق توسع في الأراضي وبسط في النفوذ والجاه والسلطة ، مع نزعة الاستعلاء والهيمنة ، لا ينطبق عليه مفهوم الجهاد في سبيل الله ، المنزه عن الأهواء والمطامع في أغراض الدنيا ، والمستهدف إلى إعلاء كلمة الله وتحقيق المثل العليا ، كما لا يستحق من يقتل في مثل هذه الحروب العنصرية أو الطائفية البعيدة عن الأهداف الإسلامية والقيم الإنسانية ، لمواصفات الشهادة والشهيد إلا من باب العرف والتقليد . .