الخليج اليوم – قضايا إسلامية – السبت 1-فبراير-1986 م
ما هو السر في تحول العرب من مجتمع كان يعكف على عبادة الأوثان وصناعة الأصنام إلى مجتمع ينشر الهدى في الأرض ويفتح الأقطار بقوة الإيمان وبصيرة العلوم والحضارة خلال فترة وجيزة من انبثاق فجر الدعوة المحمدية في جزيرة العرب ؟ وكيف استطاعوا إطلاق العقول الجاهلية التي كانت تعيش في الخرافات والخزعبلات والشعوذة إلى شواطئ النور والعلوم والسلوك القويم وأصبحوا أساتذة العالم في العلوم العقلية والكونية وأرسلوا النور والعرفان إلى أنحاء الأرض . وسجل هذه المعجزة واعترف بها كل من له عقل سليم وفهم صحيح ؟
الإسلام دين حضارة وعلم
إن الإسلام أمد اتباع بطاقة روحية جعلت منهم قوة حقيقية في جميع مناحي الحياة البشرية لأنه يعلمهم الإيمان الصحيح والعمل الصالح والسلوك القويم والحماس المخلص والاجتهاد المتواصل في مجالات الخير كله ماديا وروحيا وقد نزل القرآن أول ما نزل في أمة بعيدة عن المباحث العقلية والمسائل الكونية والتجارب العلمية وكانت قلوبهم مليئة بالأساطير من آبائهم الأولين وبالتقاليد البالية الخرافات الوهمية كما أشار إليها القرآن الكريم : “وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة : 2) .
فكانت المهمة الأولى للقرآن تحرير العقول البشرية من رق التقليد الأعمى وإنهاضها إلى مجال التفكير والنظر ببصيرة وتدبر وهكذا حفز النفوس إلى النظر في الآيات الكونية وتدبر حقائها وأسرارها وجلالها وجمالها وحث القرآن الكريم على تحصيل العلوم والمعارف حيثما وجدت فبدأ نزوله بالأمر بالقراءة وبيان فضل العلم وصرف العقول لتدبر الآيات التي أودعها الله تعالى في نفوس الإنسان أولا والتي أودعها في الطبيعة الكونية كلها فيقول أول ما نزل من هذا الدستور الإلهي :”اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق :1-5).
بداية عهد البحث والنظر
ومع نزول القرآن قد ابتدأ عهد البحث والنظر في أرض العرب وبدأت قيود الجمود والحجر الفكري تتولى واستنارت البصائر وتحررت العقول فوطئت أقدام أمة القرون معاقل الفلسفة العقلية ومراكز العلوم الكونية والطبيعية وكان رائدهم في ذلك إرشاد القرآن وتنبيه النبي العظيم إذ قال : “الحكمة ضالة المؤمن” . وقد علمتهم هذه الحكمة أن العلم والبحث والنظر من صميم التعاليم الإسلامية ومن أصول الهداية الإلهية ، وأن العلم والمعرفة والحضارة الإنسانية من معالم الأمة القرآنية وأن هذه المعالم لا تعرف الفرق بين عربي وعجمي ، وأبيض وأسود ، وغني وفقير وشرقي وغربي ، وأرشدهم الرسول عليه الصلاة والسلام : “اطلبوا العلم ولو بالصين” .
وهكذا اغتنم المسلمون الأوائل من العرب والعجم في نور القرآن وإرشاد الرسول ، الثروات العلمية والذخائر الفكرية في خزائن العالم وآفاق الدنيا ، وتعلموا العلوم والفنون والآداب في ميادين الحضارة البشرية في كل مضمار من شعب الحياة ، وترجموا كثيرا منها إلى اللغة العربية ووضعوا فيها علوم أصلية حتى عقدت لهم قيادة عامة في ميادين الحضارة والعلوم .
بداية الانحراف
وظلت أمة الإسلام تمسك بزمام الأمور في هذا المضمار ، ما دامت تتمسك بأصول القرآن وتعاليم نبيه عن فهم وإدراك ولم تتخلف هذه قليلا عن ركب القيادة في هذا المجال إلا بعد أن انحرفت قليلا عن صبغة دينها الأصيلة وشابتها العناصر الدخيلة ، وذلك بأسباب داخلية من ضعف الإيمان بمبادئ القرآن والانصراف عنها إلى غيرها ، وبأسباب خارجية طارئة من التأثر بالعناصر الدخيلة إلى صفوف المسلمين بفعل المؤامرات العديدة التي حيكت ضد هذه الأمة بغرض صرفها عن هذه القيادة وتشغيلها بأمور تافهة بعيدة عن أصول الحضارة والمدنية الكونية الفعالة ولا يخفي على من له إلمام بمجريات التاريخ الحضاري الإنساني أن الإسلام كان النصير الأول والأكبر للعلم والحضارة والحليف الغيور على البحوث العلمية والفكرية والنظرية ، وأيضا لا يخفى عليه أن القرآن قد منح الرياضيات والطبيعيات وما وراء الطبيعة وكذلك الفلاسفة والأدباء والمكتشفين والمخترعين وبهذه الطاقة المنطلقة من مركز القيادة في مجالات الحياة كلها .