الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأربعاء 4-ديسمبر-1985 م
إن مناط التكليف وتحمل الأمانة في نظر القرآن الكريم هو الحرية وبعبارة أخرى أن الحرية تصنع صاحبها أمام مسئولية والتزام ، وإلى هذه الحقيقة الفطرية السليمة يثير الكتاب الحكيم : “إنا عرضنا الأمانة عاى السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان…” . وبما أن طبيعة السماوات والأرض والجبال والبحار والأشجار وحتى الحيوانات لا تتمتع بنعمة حرية الاختيار وأنها مجبولة على فطرة الانقياد القسري ، لا تتحمل الأمانة الإلهية في خلافة الأرض ولا تكلف بالتكاليف الشرعية التي مدارها العقل والحرية .
إن الحرية الممنوحة في الإسلام تلزم صاحبها أن يتمسك بجميع نواحي حياته في هذه الدنيا بجدية وبنظام وبوعي وبشعور بالمسئولية الكاملة عن دقات قلبه وذرات طاقاته لأنه سيواجه حسابا دقيقا عن حركة من الحركات وسكنة من السكنات في حياته الدنيا .
الحرية من الأمانة الملقاة على عاتق صاحبها
ولا ينبغي لعاقل أن يفهم أن الحرية تمنح له حق الفوضى والانحلال والميوعة والتهرب من مسئوليات الحياة وحسابها وثوابها وعقابها فيقول الله سبحانه وتعالى بكل صراحة ووضوح : “لتسئلن يومئذ عن النعيم” . ويقول أيضا : “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ” .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا المضمون العملي الشامل للحرية في الحقيقة والواقع “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه ما عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه ” . ويجب أن يفهم كل مسلم أن الحرية ليست فكرة خيالية أو حركة مرحلية في حياة الإنسان وإنما هي مسئولية عن مضمون هذه الحياة من كل النواحي الفكرية والعملية والمادية والروحية وأن كل تبعات الكيان الإنساني جسما وروحا ، منوط بفكرة الحرية .
مخاطر الخلط في مفهوم الحرية
إن الخلط في مفهوم يؤدي إلى الفوضى وانقلاب الضوابط في شؤون الحياة . ومادام خالق البشر ورب العالمين قد جعل الحرية مداد التكليف بين الكائنات فإن قانون الطبيعة يرفض أن يتخذ الحرية الممنوحة للإنسان مصحوبة بالعقل والمقدرة ، أدارة للحركات العشوائية والفوضى السائبة . ولو أن الإسلام حاول تحكيم عقله في فهم حقيقة الحرية لعرف أن الفوضى في شؤون الحياة عبودية للأهواء النفسية الضعيفة وخضوع لنزوات الشياطين . وبها الموقف يكون تلقائيا مسلوب الإرادة ومنهوك القوى العقلية ، وعبدا ذليلا وخاضعا للتيارات العشوائية وهذ الوضع لا يتمشى أبدا مع كرامة الإنسان الحر ذي الإرادة الحرة لتقرير مصيره .
الحرية توقد وتحفظ النفس
إن الحرية الخقيقية في نظر الإسلام ومفهومة سوف توقد جذوة الوعي في نفس الإنسان وأما الفوضى فهي التي تفقد الوعي وتجعل صاحبها في متاهات وحيره في غياهب الظلام فينحرف ويسقط في هوة سحيقة .
وأن حرية التفكير وحرية العمل وحرية الانطلاق من قيود التقليد وهوى النفس ، وحرية الانضباط في شئون الحياة تنقذ الإنسانية من فوضى تبديد الطاقات وتضييع الإبداعات في مسارب العبث ومسارح الفضول ، وأن الحرية تحدد مسئوليات الإنسان ، وأما الفوضى فتبدد طاقاته وتضيع حياته ، وأن الحرية تجعل الإنسان منتجا نافعا وأما الفوضى فتجعله عاطلا تافها في منظور البشر ، وعاصيا ممقوتا في مفهوم الإسلام ، ويحدد القرآن مسئولية الحرية ، تحديدا قاطعا : “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ” .